معركة حلب ترسم النظام الإقليمي الجديد
سركيس ابو زيد
سوريا اليوم تحدد مستقبل المنطقة وتعيد رسم خارطتها السياسية. ومعركة حلب بالذات هي التي تحدد مستقبل سوريا وترسم خارطتها ونظامها. ولذلك فإن الأنظار تتجه شمال سوريا حيث تدور مواجهة دولية إقليمية بين محورين: المحور الروسي- الإيراني، والمحور التركي- السعودي. وأما الولايات المتحدة، فإنها في صدد "إدارة الصراع” وتقيم اتصالات مع المحورين: تتفاهم مع روسيا وإيران على إطار الحرب والحل، وتساير تركيا والسعودية في دعم المعارضة دون أن تجاريهما في خطط المنطقة الأمنية والتدخل البري.
يعتمد التفاهم التركي - السعودي على تغيير قواعد اللعبة شمال سوريا، وهنا يبرز احتمالان:
-إما أن بادرت كل من تركيا والسعودية الى هذه السياسة الهجومية من باب "التهويل والمناورة” للضغط على واشنطن وحملها على وقف تغطيتها للمشروع الروسي في سوريا.
-وإما أن تركيا والسعودية لا تهوّلان ويكون تهديدهما جدّيا، ويحظى بتشجيع أميركي بهدف إعادة التوازن على الأرض والى قواعد المفاوضات السياسية.
بعد أن أعاد الجيش السوري رسم الخريطة الميدانية عبر كسره الحصار الذي كان مفروضاً على قريتي نبّل والزهراء، تقدم الأكراد في الشمال المفتوح على تركيا والذي جوبه بردة فعل تركية عنيفة، تمثلت بقصف مدفعي متواصل على مواقع القتال، بالتزامن مع إدخال أكثر من 700 مسلح من معبر باب السلامة الحدودي نحو جبهات القتال المشتعلة.
تركيا بذلت جهوداً لفرض منطقة آمنة بين جرابلس وأعزاز بدعم جوي من التحالف الدولي بقيادة أميركا، لكن واشنطن لم توفر الغطاء لذلك، وتعتبر تركيا، حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري)، الذي تصفه بـ”الإرهابي” أشد خطرا من تنظيم "داعش” على حدودها وأمنها القومي. وهذا ما بدا واضحاً في التفجير الأخير الذي استهدف قافلة عسكرية عند توقفها عند تقاطع طرق في انقرة، حيث سارعت حكومة أردوغان بتوجيه أصابع الاتهام الفوري إلى حزب العمال الكردستاني بعدما كانت الاتهامات في تفجيرات سابقة حصلت في أنقرة واسطنبول تتجه نحو "داعش”.
التفجيرات الأمنية داخل تركيا تزيد من صعوبة الوضع الضاغط الذي يرزح تحته أردوغان وتجعله يحارب على جبهتين: جبهة حدودية مع سوريا وجبهة داخلية مع حزب العمال الكردستاني الذي يقيم صلات وثيقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري.
يتزامن ذلك مع استئناف التراشق السعودي - الأميركي - الروسي حول احتمال التدخل البري. ورد رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف أنه:” دعوني أكرر أن أحد لا يرغب في اندلاع حرب جديدة، وان عملية برية ستقود إلى حرب شاملة وطويلة”. أما طهران فقد حذرت الرياض من مغبة إرسال قوات إلى سوريا. وقال نائب رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية العميد مسعود جزائري "نحن لن نسمح أبدا بأن تسير الأمور في سوريا كما تريده الدول الشريرة التي تريد تنفيذ سياساتها، وسنتخذ الإجراءات اللازمة في حينها”.
المشكلة الرئيسة في العلاقات التركية - الأميركية هي تباين الأولويات بين الطرفين. قادة في "حزب العدالة والتنمية” يعتبرون سوريا شأناً داخلياً تركياً لتبرير تدخلهم في شؤونها.
لقد استفاد الغرب كثيرا من النزعة العثمانية المذهبية العرقية لتأجيج الصراع في لحظة معينة. لكن الزاوية التي ينظر منها الشريك الغربي لا تتطابق مع زاوية النظر التركية في كثير من العناوين، وعلى رأسها اليوم مسألة تكوين السلطة الجديدة في سوريا وموقع الرئيس السوري بشار الأسد فيها، ودور قوات الحماية الكردية السورية في الشمال السوري إضافة إلى طريقة التعامل مع "داعش”.
فكلما ارتفع الصراخ التركي بوجه الولايات المتحدة كان ذلك دليل على المأزق الذي تواجهه أنقرة. ولا يبدو أن الأميركيين سيمتنعون، عن تسليف بعض المواقف المؤيدة للسعوديين، رغم أنهم لا يبدون حماسة لأي تدخل برّي لقواتهم أو أي عملية برية في سوريا، غير أنهم قد لا يمانعون في رؤية قوات خليجية تقاتل في سوريا.
فما يجري في شمال سوريا هو الرد الروسي المباشر على إسقاط تركيا طائرة روسية مقاتلة قبل أشهر. الرد الروسي جاء استراتيجيا لجهة وضع سوريا تحت الحماية الكاملة لروسيا، وإفقاد تركيا المبادرة العسكرية في سوريا، والوصول الى الحدود التركية وقطع طرق الإمداد والتواصل بين تركيا وفصائل المعارضة والتنظيمات المسلحة. أما رد تركيا على الهجوم الروسي الاستراتيجي فلم تظهر معالمه واتجاهاته بشكل نهائي وواضح حتى الآن.
تركيا تهدد بعدم السماح بسقوط مدينة أعزاز السورية الحدودية بأيدي الوحدات الكردية ولا بتقدم الميليشيات الكردية نحو غرب الفرات أو شرق عفرين. وترجم التهديد التركي على الأرض بعمليات قصف مدفعي ورفع حجم ومستوى المساعدة العسكرية للمعارضة وتمرير مقاتلين وحتى إرسال قوات تركية خاصة. ولكن كل ذلك لم يوقف تقدم الأكراد، معتمدين على التحذير الروسي من أن أي دخول تركي الى داخل سوريا سيقابل برد فوري وحاسم. بالإضافة إلى عدم وجود غطاء أميركي، ومن دونه لا إمكانية لحدوث تدخل تركي وسيكون مكشوفا من الناحيتين السياسية والعسكرية. يضاف إليه حالة التعاطف والتضامن "الدولية” (الأميركية والأوروبية) مع أكراد سوريا الذين يحاربون بفعالية ضد تنظيم "داعش”. وما يريده الأوروبيون هو ضرب "داعش” ودعم الأكراد في هذه المهمة. الخطورة فيما تقوم به تركيا تكمن في فتح الباب على المجهول ونقل الحرب في سوريا الى مرحلة التدويل والمواجهة المباشرة بين قوى إقليمية ودولية كانت حتى الآن تتواجه بالواسطة.
وحسب رأي خبراء ودبلوماسيين "يبدو واضحاً أن محادثات "جنيف 3” التي قُدمت على أنها تهدف الى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية قامت على خديعة”. فبينما كانت البعثات الديبلوماسية منشغلة بتذليل الخلافات، كانت موسكو تحضر لشن هجوم بري مدعوم من القوات الخاصة على مواقع المعارضة في حلب وريفها. ومنذ افتتاح مؤتمر جنيف نجحت روسيا في تسجيل وقائع على الأرض. حيث أفادت من الانكفاء الأميركي لتذهب بعيدا في إحداث واقع جديد وفرض شروطها وتصورها للحل.
يرى هؤلاء أن التواطؤ الأميركي المريب في سوريا يطلق يد موسكو سياسياً وعسكرياً في هذا البلد، ويزيد التوترات مع تركيا والسعودية ويقوّض أي آمال في اتفاق سلام قابل للتنفيذ. فوزير الخارجية جون كيري نسف مؤتمر جنيف قبل انعقاده بإذعانه للطلب الروسي اسقاط شرط رحيل الرئيس الأسد واسكاته الانتقادات لروسيا بقصفها الفصائل السورية كلها، بدل التركيز على "داعش”.
الأوساط الأوروبية ترى أن المنطقة كلها أمام مفترق خطير. وإذا لم ينجح الكبار ومعهم اللاعبون الإقليميون في تقديم تنازلات متبادلة لن يكون هناك خيار سوى توسيع نطاق النيران والحرب.
ويبدو أن اتجاهات رياح الحرب المستمرة منذ خمس سنوات، ستهب من بلدة أعزاز التي تشكل نقطة التقاء طرفي المناطق الكردية وخط إمداد للمعارضة. ويبدو من استنفار اللاعبين الدوليين والإقليميين، جعل مصير أعزاز يشكل محطة رئيسية في مصير حلب ومن ثم رسم مستقبل الشرق الأوسط. ومن يفوز بهذه البلدة الصغيرة، سيعزز موقعه في رسم النظام الإقليمي الجديد.