ما بعد عملية الخليل
عبد اللطيف مهنا
ليس الفشل وحده كان السبب في اتخاذ القرار الصهيوني القاضي "بتقليص”، مدى وحشية ما ذهبت إليه حملة التنكيل واسعة النطاق ضد الشعب الفلسطيني في الضفة المستباحة والقطاع المحاصر، لكنما هذا الفشل كان سببًا رئيسيًا ومباشرًا لاتخاذه حملة عسكرية وأمنية شرسة وشاملة، بل وبمستوى الحرب المصغَّرة، استمرت على امتداد الأسبوعين المنصرمين وما زالت، إذ إن تقليصها لا يعني إيقافها، استشهد خلالها، حتى الآن، ستة شهداء، واعتقل ما ناف عن الأربعمئة معتقل، وأعيد اعتقال جزء كبير من الأسرى المحررين في ما عرفت بـ”صفقة شاليط”، بل وأعيد اعتقال الأسير الشهير سامر العيساوي، وخلالها تم تفتيش آلاف البيوت وعيث فيها تخريبًا، وتم ترويع النساء والأطفال، في ليالٍ توالت وعمت فيها المداهمات والاقتحامات والترهيب العديد من المدن والقرى والمخيمات، إلا أن حصاد هذه الحملة المسعورة الباطشة، لجهة تحقيق هدفها المعلن وهو العثور على الأسرى الصهاينة الثلاثة كان صفرًا خالصًا. إذ ليس من أثر لهم، ولا من معرفة للجهة التي أسرتهم، ولا في أي مكان هم. كما أن الهدف المضمر من اتخاذ محاولة تحقيق هذا الهدف المعلن سببًا وذريعة لإرهاب الشعب الفلسطيني وقهره، أو فل صموده وقتل روحه المقاومة المتحدية، قد فشل هو الآخر.
فالتظاهرات التي شهدتها رام الله، والتي استهدفت مقار شرطة سلطة أوسلو وسيارات قواها الأمنية، والمنددة بتنسيقها الأمني مع العدو، وكذا الدعوات للإنتفاضة الثالثة التي ترددت أصداؤها في الساحة الفلسطينية، أكَّدت على فشل هذا الهدف، فكان هذا أيضًا سببًا ثانيًا لا يقل أهميةً عن الأول لاتخاذ الصهاينة قرارهم، أو ما أكرههم على مراجعة حساباتهم.
لقد سبقت هذه المراجعة تحذيرات عديدة صدرت عن ساسة وقادة أمنيين صهاينة كثر نبهوا فيها إلى أن شدة الضغط على مرجل الغضب الشعبي الفلسطيني الذي يغلي تحت نير الاحتلال سوف يعجِّل من لحظة انفجاره في وجه المحتلين وسلطة أوسلو على السواء… هذه السلطة التي بدت، ليس في ظل الأحداث التي رافقت هذه الحملة الصهيونية فحسب، وإنما منذ أن كانت، الأشبه ما تكون بالأداة الأمنية في خدمة الاحتلال، أو في صورة وكيلته، وحتى المتواطئة معه. لذا فإن ما جرى في رام الله من مظاهرات وما تردد فيها من هتافات، وكذا المواجهات بين الشبان في الخليل المُنكًّل بها وقوات الغزاة المحتلين، كان بمثابة جرس إنذار، أو فيه ما أعطي لهذه التحذيرات المشار إليها زخمها الذي دفع ما يدعى بالمجلس الوزاري المصغَّر في حكومة الكيان الصهيوني إلى الإصغاء إليها، والذي ربما أصغى أيضًا إلى نصائح كيري الأميركية، فاتخذ من ثم قراره التقليصي المشار إليه.
لقد أثبت فشل استهدافات هذه الحملة العسكرية الصهيونية، وفق ما بيَّناه آنفًا، أن عملية أسر الصهاينة الثلاثة، ومن ثم كافة تجليات ردة الفعل الصهيونية الباطشة عليها، قد ألحقت ضررًا بسلطة أوسلو والنهج الأوسلوي التساومي التفريطي أكثر بكثير مما ألحقته ببنى الصمود والمقاومة التي استهدفتها الحملة طيلة الأسبوعين المنصرمين، ذلك لأنها قد كشفت لمن لم يكتشف بعد عن تلاقٍ موضوعي بين مصلحتي كل من الاحتلال والسلطة بلا سلطة القائمة في ظله والمتساوقة مع إملاءاته، لجهة عدائهما المشترك للمقاومة وخشيتهما المشتركة من اندلاع مستحق للانتفاضة الشعبية المنتظرة، أو هذا الذي سيكون من أول نتائجه لو حدث انهيار محتم لهذه السلطة… هذه السلطة التي لا ترى في هذه الانتفاضة، وفق المعلن عنها والمنسجم مع نهجها والمتفق مع منطقها المعروف والمتناسب مع مصلحة طبقة طفيلية نمت على ضفاف مستنقعها، أكثر من كارثة، وليس باعتبارها محطة نضالية مجيدة في سياق ملحمة فلسطينية كفاحية مستمرة على مدار ما قارب القرن وتعبيرًا محتومًا عن إرادة مواجهة أسطورية متقدة الجذوة وعصية على الانكسار أو الضمور.
وبعيدًا عن بعض تصريحات غلاة متطرفيهم، لم يكتم الصهاينة في يوم من الأيام حرصهم على استمرارية هذه السلطة لما عنته لهم من شاهد زور ولما أرادوه لها من دور تصفوي للقضية الفلسطينية، ورغم ما أطلقوه عليها من وابل الضغوط وشديد الانتقاد لقصورها وعجزها عن مساعدتهم في تحقيق هدفهم المعلن لجاري حملتهم التنكيلية بالشعب الفلسطيني، إلا أنهم، بعد اعترافهم بفشل حملتهم وعلى ضوء مراجعتهم لحساباتهم التي أشرنا إليها، سرعان ما خففوا من لهجة انتقاداتهم لهذه السلطة وجنحوا إلى إبداء بعض الليونة تجاهها، لا سيما إثر ما سمعوه من أقوال لرئيسها كان قد أطلقها من جدة، والتي توعَّد فيها آسري الصهاينة الثلاثة بالعقاب، معتبرًا أن عملية أسرهم تستهدف "دمار الفلسطينين”، منوِّهًا بالتنسيق الأمني مع المحتلين باعتباره في نظره "يحميهم”، بل ذهب لحد نعيه لقدرتهم على مقاومة محتليهم "لا عسكريًّا ولا خلافه” من طرق المقاومة الأخرى… لقد كان أول من عزف على مثل هذا الوتر الليِّن من الساسة الصهاينة هو بيريز، ذلك عندما أعاد التعبير عن قناعته التي لطالما رددها، وهي أن رئيس هذه السلطة يظل "الشريك الأفضل” بالنسبة لهم، ثم تبعه نتنياهو عندما قال "إنني أقدِّر أقوال الرئيس عباس قبل عدة أيام في السعودية، فهذه أقوال مهمة”!!!
وعود على بدء، التقليص صهيونيًّا لا يعني إيقافًا للتنكيل، وإنما محاولة لتفادي تداعياته، وتظل الحرب العدوانية المبيَّتة على غزة الأكثر من واردة، أما بادي الالتقاء الموضوعي بين مصلحتي الصهاينة والأوسلويين فليس من شأنه إيقاف المقاومة بل يتطلب زيادةً في اتقادها.