أوروبا بين الإرهاب والعنصرية
سركيس ابو زيد
مجدداً تعود العاصمة الفرنسية باريس الى الواجهة عبر عملية انتحارية هي الأعنف من قِبَل "داعش"، والتي أسفرت عن أكثر من 130 قتيلاً ونحو 352 جريحاً.
فما حدث في 13 تشرين الثاني يتجاوز ما جرى في كانون الثاني الماضي، عندما استھدفت صحيفة "شارلي إيبدو" بھجوم إرھابي نُظِر الى جانب منه على أنه ھجوم انتقامي رداً على نشر رسومات مسيئة للاسلام. هجمات 13 تشرين الثاني كانت منسقة في توقيتھا وأھدافھا من قبل مجموعات مدربة وواثقة من نفسھا، تمتلك أسلحة وذخائر وأحزمة ناسفة ووسائل تحرك، ووصلت الى أھدافھا بسھولة وقامت باستعراض كل مھاراتھا وقدراتھا الإرھابية، عبر قتل وجرح المئات وخلق حالة من الھستيريا والھلع في شوارع باريس التي تحولت مرة واحدة من مدينة الأنوار والحياة الى مدينة مطفأة الحركة.
فالمسألة باتت أخطر وأكثر من "خلل أمني فاضح". وھذا لم يحصل في أي عاصمة أوروبية. غير أن ما حدث تجاوز في نتائجه وارتداداته فرنسا الى أوروبا والى الشرق الأوسط، لأسباب عدة منها أن:
-فرنسا ستكون مضطرة لإجراء مراجعة شاملة وجذرية لنظامھا الأمني. فما حدث كشف عن عطب وخلل وتقصير في أداء الأجھزة الأمنية والاستخبارات الخارجية، وخصوصا في مجال السياسة والإجراءات الأمنية الاستباقية والوقائية، التي ھي الأنجع والأفعل في الحرب المفتوحة مع الإرھاب.
-ستبادر فرنسا الى رفع مستوى تدخلھا العسكري في الحرب على الإرھاب، وتحديداً على "داعش" عدوھا الذي صار رقم واحد. مع تنامي الضغوط باتجاه إحداث تغيير في السياسة الخارجية الفرنسية وخصوصا إزاء سوريا ونظام الرئيس الأسد.
-كما سيواجه الرئيس ھولاند ضغوطاً داخلية متزايدة تبدأ بانتقادات لسياسته العاجزة عن حماية الفرنسيين وتتطور الى مساءلة ومحاسبة حكومته.
-ھجمات باريس أوجدت مناخاً أوروبياً جديداً في إعادة النظر في كل الخطط والأنظمة، بما في ذلك خطط استقبال المھاجرين واللاجئين وأنظمة الأمن على الحدود وفي المطارات.
-أحداث باريس أعادت الأصوات الكارھة للمسلمين والعرب إلى الواجھة من جديد في فرنسا ودول أخرى، وعززت من "الإسلاموفوبيا" ومناخ الكراھية للمسلمين. ولم تعد تنفع كل التنبيھات الرسمية والسياسية لجھة عدم الخلط بين الإرھاب والإسلام . حيث ارتفعت معدلات الأعمال المعادية للمسلمين أو لمصالحھم، أكان ذلك من خلال تدنيس مساجدھم ومقابرھم وأماكن العبادة التابعة لھم، أو استھدافھم لفظيا كتابة وقولا.
وكشفت لجنة حقوق الإنسان الإسلامية البريطانية عن أن ثلثي مسلمي بريطانيا يشكون من تزايد التمييز ضدھم، ويعتقدون أن الساسة والإعلام يذكون أجواء الكراھية.
وتحت وطأة الإرھاب وحالة الذعر والھلع من حصول ھجمات جديدة، وھذه المرة كيميائية وبيولوجية، يقوى التطرف وترتفع أصوات حملت رؤى يمينية متطرفة، حيال الأجانب عامة، وتجاه العرب والمسلمين بصفة خاصة، مستغلة مأساة اللاجئين للتكلم عن "أوروبا ذات الجذور المسيحية التي لا يجوز لھا استقبال اللاجئين المسلمين كونھم يھددون ھويتھا الدينية والاجتماعية". وعلى سبيل المثال إريك زمّور، الكاتب والإذاعي الفرنسي، صاحب الكتاب الشھير "الانتحار الفرنسي" يصب جام رفضه على "وجود المسلمين في أوروبا"، ولا تتوقف مطالبات زمّور عند ھذا الحد، بل تصل إلى مستوى غير مقبول عقلاً أو عدلاً، إذ يؤيد فكرة طرد خمسة ملايين مسلم فرنسي.
ثال آخر يتمثل بالسياسي اليميني الھولندي خيرت فيلدرز، المعروف بتعصبه وكراھيته، وھو لا يرى في العرب والمسلمين سوى جماعة من المتطرفين المتعصبين، ويعمل على ترويج ھذه الصورة المشوھة لا في أوروبا فحسب، بل عبر المحيط الأطلسي، وفي القارة الأميركية أيضا.
وطبعاً، أول المتضررين كان فئة المھاجرين واللاجئين غير الشرعيين الى أوروبا، لا سيما من سوريا عن طريق اليونان والبلقان. وكل الكلام عن فوائد ومنافع اقتصادية للاجئين لأنھم يشكلون فرصة لأوروبا ولأسباب مختلفة من جراء التغيير الديموغرافي وتقلص الولادات والحاجة الىملء وظائف كثيرة شاغرة... كل ھذا الكلام لم يعد له مكان وحل محله كلام الأمن وخطر الإرھاب الذي صار واقعا مخيفا داخل أوروبا.
وتتزايد المخاوف من إقفال حدود دول الاتحاد الأوروبي أمام اللاجئين، وثمة مخاوف في البلقان من أن تقيد النمسا وسلوفينيا العبور بعد ھجمات باريس. وفي الولايات المتحدة، بدأ حكام 24 ولاية أميركية على الأقل اتخاذ إجراءات لمنع لاجئين سوريين من الاستقرار في ولاياتهم.
ووفق ما تقدم نجد أن الأزمة التي تعيشها أوروبا بالفعل حقيقية، لكن المفارقة ھنا أن أول من سيدفع ثمن نزعة "رفض الآخر" ھم الأوروبيون أنفسھم، ما يعني أن مستقبل الاتحاد الأوروبي بذاته وفكرته الأصلية باتا في خطر.
من جهة أخرى نرى أن الانعكاس الأھم لهجمات باريس كانت على مستوى الموقف الدولي من مسألتي الإرھاب والأزمة السورية. فقد أعادت ھجمات باريس خلط الأوراق في اتجاھين: إعطاء الأولوية المطلقة للحرب على "داعش"، والدفع باتجاه إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية وتسريع وتيرة عملية فيينا التي اتفق المشاركون فيها على الحل السياسي في سوريا ضمن مرحلة انتقالية لا تتعدى الستة أشھر، بالإضافة الى مفاوضات لوقف للنار لا تشمل "داعش" و"النصرة"، ثم تشكيل حكومة من النظام والمعارضة، وأخيراً انتخابات عامة بإشراف دولي بعد ثمانية عشر شھراً في ظل دستور جديد. ورغم استمرار خلافھم على مصير الرئيس السوري بشار الأسد، اتفق المشاركون في المحادثات الھادفة الى إنھاء الحرب في سوريا على عقد لقاء جديد خلال نحو الشهر.
أما في قمة مجموعة العشرين في أنطاليا التركية فقد طغى ملفا محاربة "داعش" والأزمة السورية، ولفتت على ھامش القمة المحادثات غير الرسمية بين الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، وقال مسؤول في البيت الأبيض للصحافيين عقب لقاء أوباما وبوتين إنھما "اتفقا على الحاجة إلى عملية انتقال سياسي يقودھا السوريون تسبقھا مفاوضات برعاية الأمم المتحدة بين المعارضة السورية والنظام، إضافة إلى وقف لإطلاق النار".
من الواضح الآن أن باريس، وفق محللين فرنسيين، تبنت القراءة الروسية من زاويتين: الأولى اعتبار "داعش" العدو الأول الواجب قتاله، وهذا ما تجلى واضحاً في قول هولاند: "نحن في حال حرب، عدونا في سوريا ھو "داعش" وليس نظام الرئيس الأسد"، عارضا تعاونا عسكريا مع الروس، لمحاربة ھذا التنظيم الخطر.
مجزرة باريس الدامية دفعت الكثيرين الى خفض سقف مطالبھم، وتجاوز الخلافات مؤقتاً. مع ضرورة التوافق على حلول أو فرضھا بالقوة لأن الإرھاب بدأ ينتشر سريعاً في ديارھم جميعاً. فإما أن يتوحدوا لمواجهة خطره أو يخسروا معركتهم أمام الارهاب ويخسروا أوطانهم.