نحن والاستعمار
ثريا عاصي
أواصل في هذه الحلقة تلمّس المنطلقات التي أظنّ أنها ضرورية ولازمة للبحث في المشكلات التي باتت تحيط بنا من كل صوب. أكاد أن أسمّي هذه الأخيرة عِلاّت ظهرت أعراضها مجتمعة وبقوة في السنوات الأخيرة، ما حدا بكل فريق، كعادة العربان في الأوقات الحرجة، إلى استدعاء أطباء أجانب لمعالجته. بعض الأفرقاء يتداوون في الخارج بدل الاعتماد على النفس والتعلُّمِ! أيها المستعمرون نحن نثق بكم ! أهلا بكم من جديد!
لعلّ من أسوأ السياسات الوطنية تلك التي تقضي بالالتفاف حول القضية المركزية، وافتعال مشكلة مزوّرة، ثم التظاهر بالاهتمام بها، وإيهام الناس بأنّ تسويتها هي المدخل الوحيد إلى الأمن والإزدهار.
من البديهي أنّ وراء الحرب بالوكالة، التي تتعرّض لها شعوب المنطقة المحيطة بفلسطين المحتلة نجد المستعمرين الإسرائيليين. هؤلاء الأخيرون يريدون "تطهير فلسطين من الفلسطينيين”، وإظهار دولتهم في فلسطين بمظهر "الدولة اليهودية” المتعافية من التمييز العنصري، كشرط لازم لمحو خطيئتهم الكبرى المتمثّلة "بإقصاء سكان أصليين عن بلادهم” بأساليب ووسائل همجية.
لا جدال في أنّ وراء هذه الحرب أيضاً تقف الإمبريالية الأميركية ـ الأوروبية، التي تسعى كما يبدو، ومنذ زمنٍ بعيد، إلى هدفين، الأول هو إجهاض محاولات تكوين أمة عربية وأمة سورية. فوجود كيانات من هذا النوع يتعارض مع مشروع الدولة "الإسرائيلية اليهودية” استناداً إلى المرجعية الأسطورية بأن إسرائيل هي مهد "الحضارة اليهودية ـ المسيحية” طبعاً، وبأنّ "الشعب المختار” أنسل " الرجل الأبيض الذي يحمل بيدٍ التوراة وبالأخرى البندقية”!
ولكن من المرجّح، بالإضافة إلى ما سبق، أن تكون الإمبريالية الأميركية ـ الأوروبية قد عثرت في البلاد العربية على مادة بشرية تختزن طاقة صالحة للاستخدام في الحروب بالوكالة، تضاعف الفوائد والأرباح التي تجنيها هذه الإمبريالية من منابع النفط الموجودة في نفس البلاد العربية ! استغلّت هذه الطاقة حتى الآن في أفغانستان والجزائر والعراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال، وضدّ الاتحاد السوفياتي!
ليس من حاجة إلى بسط وتوسّع للتدليل على أنّ إقحام الديانة الإسلامية في ميدان السياسة أوْصَل المجتمعات العربية إلى مأزق خانق. يحسن التذكير هنا بأنّ اتخاذ الدين أداة للحكم ليس مسألة جديدة، ولكن المشكلة تكمن من وجهة نظري في التقاعس، بل في التقصير عن استنباط معانٍ عصرية من الرسالة الدينية، وفي الاكتفاء بالقراءة السطحية التي فرضتها ذهنية المتلقّين الذين خرج فيهم النبي العربي مبشّراً! (610 ميلادي).
لا شكّ في أنّ الجمود الفكري والحسي اقتضى سفك دماء كثيرة، ضمن سيرورة، القصد منها فصل النخبة عن الجماهير الشعبية. لا غلوّ في القول إنّ هذه السيرورة لا تزال مستمرة في زماننا، بمعنى آخر، إنّ تخبّط المجتمعات العربية في الراهن، في "ثوراتها” إنما هو نتيجة لإبعاد النخبة ولتحريم الفكر. طبيعي أن يعجز في الوقت الحاضر، نظام الحكم الذي أعدم في سنة 1949 رجلاً كمثل أنطون سعاده بعد أقل من يومين على اعتقاله، أن يعجز عن أن يعتقل إرهابياً تافهاً، أو أن يسوقه إلى العدالة، أو أن يمنعه من أن يقصف دمشق بالمدافع !
ما يريده الإمبرياليون هو مادة بشرية وذهنية، لا تختلف عن الذهنية القبلية التي كانت منتشرة في شبه الجزيرة العربية قبل انطلاق الدعوة المحمدية. المعروف أنّ هذه الذهنية تُغذِّي العصبية، وتتغذّى من الذين يحققون ثراءً كثيراً فاحشاً. ينبني عليه أنّه ليس مستغرباً أن يتمكّن آل سعود في هذا الوقت من نشر عدوى العصبية القبلية، فهم أسروا الدين ولديهم أموال طائلة!
مجمل القول إنّ الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى رجال، لا يذهبون إلى المدرسة، يستجيبون لنظام القبيلة، بمعنى أنّهم يقيسون المعتقدات والسياسات والدعوات بمعايير قبلية، يتعصبون لكل ما يمكن إدخاله في قالب القبيلة، ولكل ما يصوّر لهم أنه صار في وعاء القبيلة. النخبة منبوذة لأنها ضدّ القبيلة، المستعمرون هم أصدقاء القبيلة لأنهم يساعدون على إخراج النخبة وإبعادها، "خدمة للقبيلة”!