سياق تداعيات “منى” لمّا ينتهِ وما قبل خطاب خامنئي ليس كما بعده
هتاف دهام
تمرّ العلاقة السعودية – الإيرانية في مأزق خطير جداً، جعلت قائد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي يطلق شخصياً تهديدات غير مسبوقة، فالشعور الوطني الإيراني في حالة جرح كبير. ما قامت به المملكة يُعدّ مؤامرة محبوكة جيداً وتثير الشكوك، ولذلك فإنّ ما قبل خطاب خامنئي الأربعاء الماضي ليس كما بعده في المملكة الوهابية التي عادت عن رفض تسليم جثامين الحجاج الإيرانيين ووافقت، بعدما كانت طرحت فكرة دفن الجثامين ضمن مقابر جماعية، وتعاطت بشكل كيدي مع الجمهورية الإسلامية التي طالبتها بالكشف عما حدث ومعرفة مصير الحجاج.
وبدلاً من أن تبدّد الرياض الشكوك، حوّلت الوقائع إلى قرائن جديدة، تباطأت في إصدار ترخيص لتسيير رحلة لنقل الجثامين ما قرّبها من الاتهام الحقيقي، وبدت وكأنها تريد أن تخفي شيئاً. تراوح سلوكها بين التقصير والتقصّد، أرادت من ورائه تأجيل الاعتراف بمجموعة من الحقائق البيّنة، والتسويف والمماطلة في الإعلان عن العدد الحقيقي للضحايا، فمع الوقت تتحلل الجثث، ويصعب على الإيرانيين كشف الأسباب التي أدّت إلى حالات الوفاة. أضف إلى ذلك، عمدت السعودية من خلال توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، برقية شكر إلى وليّ العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية ورئيس لجنة الحج العليا، بمناسبة "نجاح” الموسم الحالي للحج، إلى ابتزاز مشاعر الدول وشعوبها التي فقدت ضحايا من الحجاج، بدلاً من أن توافق على تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بمشاركة الدول الإسلامية ومن ضمنها إيران لإجراء تحقيقات شفافة تعرضها أمام العالمين العربي والإسلامي للكشف عن التقصير وسوء الإدارة بدلاً من التعاطي سلباً.
لقد كان خطاب خامنئي مفصلياً، وضع السعودية أمام خيارين إما التعاون وإما التعنّت الذي يعني مزيداً من النار في المنطقة. والسؤال إلى أين تتجه الأمور؟ هذا ما يُفترض أن يُسأل عنه النظام السعودي؟ هل سيتجه هذا النظام إلى افتعال أزمة جديدة في منطقة لم تعد تتحمّل مزيداً من الأزمات؟ إنّ سياق التداعيات لحادثة مشعر منى لمّا ينتهِ، والتجاوب المتأخر لا يعني امتصاص الغضب الإيراني، بغضّ النظر عما إذا كان الطرف الإيراني قد اعتبر أنّ القبول بتسليم الجثامين يعبّر عن سياسة جديدة أم لا.
توعّد السيد خامنئي السلطات السعودية بردّ قاس وعنيف، إذا ما تعرّض الحجاج الإيرانيون وجثامين ضحايا الكارثة إلى إساءة، مضيفاً أنه إذا قرّرت إيران إبداء ردّ فعل حول هذه الكارثة، فإنّ أوضاع السلطات السعودية لن تكون محمودة العواقب، مؤكداً أنّ جَهَلة العصر حوّلوا العيد إلى عزاء.
شكّل التهديد - الإنذار رسالة حاسمة للسعودية تتضمّن القول أولاً أنّ الجمهورية الإسلامية تريد أن تختبر السعودية إنْ كانت افتعلت الحادث، أم أنّ الحادث وقع نتيجة تقصير وسوء إدارة منها، صحيح أنها في الحالة الثانية تتحمّل المسؤولية، لكن هذه المسؤولية تبقى في مستوى أدنى مما لو كان الأمر مدبّراً. ثانياً تريد طهران الضغط على الرياض لدفعها إلى التعاون في تسليم الجثامين وعدم اتخاذها ورقة ابتزاز. ثالثاً إبلاغ المملكة أنّ كرامة الإيرانيين لا تتوقف عند خطوط حمراء وأنّ طهران جاهزة لحفظ هذه الكرامة حتى لو اضطرت إلى القوة والعنف تحت أيّ عنوان من العناوين.
فهمت السعودية الرسالة جيداً وخضعت لمقتضياتها ولمضامينها وتغيّر سلوكها مع الوفد الإيراني الموجود في جدة، فبعد ساعة ونصف الساعة من موقف السيد خامنئي اتصلت الإدارة السعودية بوزير الصحة الإيراني حسن هاشمي وأبدت استعدادها لتسليم كلّ الجثث فور التعرّف إليها، وأبلغته أنّ عدد الجثث الإيرانية 464 جثة بعد أن أعلنت قبل ثلاث ساعات من الخطاب أنّ عدد الضحايا 235. وكان اللافت أنّ الرياض قبل الخطاب نفت وجود السفير الإيراني السابق في لبنان غضنفر ركن آبادي في السعودية، لتعترف بعد ذلك بأنه جثة هامدة في برادات أحد مستشفياتها، هذا يعني أنّ السعودية استوعبت جدية الموقف الإيراني وتراجعت عن نياتها وابتزازها، مع احتمال قائم بأن يكون ركن آبادي خطف من قبل السعوديين وتمّت تصفيته على أيديهم، بعد أن نجا في لبنان في العام 2013 من محاولتي اغتيال من جراء تفجيري السفارة الإيرانية في بيروت.
لكن هل للسعودية المنغمسة في وحول معركة اليمن مصلحة في ذلك في الوقت الراهن؟ ثمّة من يتهم وزير الداخلية السعودي محمد بن نايف شخصياً بافتعال المجزرة، أولاً لعدائه المطلق للجمهورية الإسلامية، وثانياً لأنه يريد حرق ورقة ولي ولي العهد محمد بن سلمان الحاكم الفعلي للمملكة، فهذه الحادثة المأسوية أثبتت عدم قدرة الأخير على الإشراف على مناسك الحج، فكيف سيدير ملفات أكبر وأكثر تعقيداً.
وإذا صحّ هذا التحليل فإنّ ما جرى يمكن وضعه في خانة التنافس بين ولي العهد وولي ولي العهد على إدارة المملكة، ويكون بن نايف أثبت للعالم الغربي لا سيما للولايات المتحدة أنه الأجدر بقيادة السعودية في مرحلة ما بعد سلمان الذي يدرك الجميع أنه الحاكم الصوري في السعودية، بينما الحاكم الفعلي هو محمد بن سلمان، لتأتي نكسة الحج في أعقاب نكسة اليمن والفشل السياسي في إدارة معركة سورية، لتتوّج فشله في إدارة المعارك في هذين البلدين، لمصلحة ولي العهد.