شذرات من حديث في السياسة
ثريا عاصي
يحضرني قول صديق أنّ الوطن ليس مبنى متعدّد الطبقات والمساكن، وأنّ العلاقة التي تربط بين المواطنين لا تقتصر على القُربى والجيرة، هذا من حيث المبدأ. بتعبيرٍ آخر، إنّ الانتماء إلى الوطن لا يرتكز على أواصر القرابة ومجاورة المسكن وملاصقة الملكية، فأنت تبدّل مسكناً أو تبيع أرضاً، ولكنك تبقى في الوطن ولا تبيعه. لولا ذلك لما كانت المصلحة والواجب يُمليان على كل مواطن الدفاع عن استقلال الوطن وعن التراب الوطني!
الوطن بكلّ بساطة، هو حيث يوجد أناس متشابهون في العادات وأساليب العيش، بالإضافة إلى كونهم ارتضوا مصيراً مشتركاً . ينبني عليه، إن الرابطة التي تجمع بينهم هي رابطة العمل ضمن إطار المشروع الوطني المشترك، لجهة توفير الظروف الملائمة لعملية الإنتاج ولتطويره وزيادته، تلبيةً لمتطلّبات الحاضر واستعداداً للمستقبل . بمعنى آخر، المواطنون شركاء في تحصيل الغذاء والسلع والمنتوجات الصناعية إلى جانب ضمان الأمن والدفاع عن الوطن، وتعليم الأجيال وتهذيبها، تأمين الطبابة، العناية بالبُنى التحتية، وتشجيع الأبحاث في كافة المجالات.
هكذا يبدو لي الوطن من خلال مشاهداتي وأحاسيسي ومثلما تمنيت دائماً أن يكون . لست هنا في معرض تقديم بحث في العلوم السياسية، ما يهمّنى من هذا كله في الواقع هو ليس طبعاً التعبير عن الحنين إلى الماضي، عندما كان الناس في لبنان أكثر تجانساً ممّا هم عليه الآن، حيث أنهم صاروا يشبهون في الراهن إلى حدٍّ كبير، سكان العمارة الواحدة، الذين يلتقون أحياناً في الفسحات بين طوابقها، دون أن يعرف أحدهم من أين يأتي الآخر، أو إلى أين يذهب أو ماذا يوجد في الكيس الذي يحمله . كأنهم مهاجرون يعيشون مؤقتاً في بلاد لا تمثل وطناً لهم.
أضع هذه التوطئة في سياق مقاربة الأوضاع السائدة في لبنان، التي تتميّز، بحسب رأيي، باضمحلال الرابطة الوطنية تدريجياً منذ أربعة عقود ونيّف . ضمرت مجالات الشراكة الوطنية وتزايدت أعداد المهاجرين . لا أبالغ في القول أنّ الوطن أصيب بالإفلاس وأنّ أمراء الحرب غسلوا أيديهم من الجرائم التي ارتكبوها (على ذمّة السيد وليد جنبلاط ) ثم ارتدوا بدلات السياسيين وتوكّلوا دون تكليف، بالتفليسة الوطنية اللبنانية !
استولى السعوديون على بيروت، أمّا المهاجرون فمنهم من واصلوا الطريق كيفما اتُّفِق أحياناً، إلى أوروبا أو اميركا، ومنهم من صدمتهم ساحات بيروت المهجورة، فعادوا أدراجهم إلى القرى التي جاؤوا منها ومعهم خردة من بقايا بيروت القديمة، سرقوها أو وجدوها في مكب نفايات أصحاب بيروت الجديدة ! هكذا خسر اللبنانيون بيروت، وخسروا قراهم التي جعلها الإسمنت ونفايات بيروت عاقراً، فضلاً عن خسارتهم أبنائهم الذين تفرقوا في أصقاع الأرض .
هل بعد هذا كلّه نستطيع أن ننعت لبنان بالوطن ؟ هل نصدّق ما تتضمّنه مقالات تملأ الصحف في لبنان افتراء على المقاومة اللبنانية وتعظيما "لثورة” متوحّشة يقف وراءه المستعمرون وآل سعود ؟ لا سيّما أنّ كُتّاب هذه المقالات يعيشون في غالبيتهم، في لندن وباريس واسطنبول بالإضافة طبعاً، إلى مشيخة قطر !
أظنّ أنّ هذه الأسئلة مبرّرة، إذ لا حَرَج في القول ولا تجنّي، أنّ جماعة في لبنان ربطت مصيرها بمشروع آل سعود الذين أسروا الإسلام وجعلوه أداةً لتمكين سلطانهم، والذين يستقوون بالإمبريالية الأميركية ـ الأوروبية . بالمقابل توجد جماعة في لبنان تعتقد أنّ مصيرها هو من مصير السوريين، فقرّرت أن تقاتل معهم دفاعاً عن سوريا وعن الدولة السورية .
من البديهي أن تقف إلى جانب سوريا جميع القوى الإقليمية والدولية التي تخشى انتصار الإمبريالية الأميركية – الأوروبية والظلامية السعودية ! اللبنانيون أمام خيارات ثلاثة، الهجرة، الإنضمام إلى رعايا آل سعود أو أن يستعيدوا هُويّتهم الحقيقية الأصلية بما هم سوريّون!