غطرسة الصهاينة
برهوم جرايسي
حذّر أكثر من كاتب ومحلل إسرائيلي حكومة بنيامين نتنياهو من أنها تبالغ في اعتقادها بأن الأجواء التي سادت الضفة والساحة الفلسطينية ككل في السنوات الأخيرة، ستبقى لأمد طويل تراقب الهمجية الإسرائيلية والاستيطان السرطاني المستفحل، والتنكيل بالشعب على مستوى الأفراد والجموع، وأنه في لحظة ما سيقع ما سيقلب الأوراق التي تسعى حكومة الاحتلال إلى تثبيتها.
ومثل هذا الكلام قيل هنا قبل أسبوعين، باقتباس أحد كتاب المقالات في صحيفة "هآرتس"، يحزقيل درور، إذ قال: "إن المستندين إلى الوضع الأمني الهادئ الحالي وكأنه مستديم، أو المؤمنين بـ"إدارة النزاع" طويل الأمد، هم مصابون بالعمى". ولكن اللافت أن هذا الكلام قيل أيضاً على لسان آخرين من المحللين والكتّاب الإسرائيليين، بعد الإعلان عن اختفاء ثلاثة مستوطنين. إلا أن كل هذا لم ينفع مع حكومة الاحتلال، التي سارعت إلى شن هجوم واسع النطاق، لا علاقة له بالبحث عن مكان المستوطنين، وجعلت كل العمليات العسكرية تقريباً تحت كاميرات البث المباشر؛ فكل عصابة من جيش الاحتلال تقتحم البيوت بمرافقة تصوير ذاتي من عناصر الاحتلال أنفسهم، ليتم نقل هذا مباشرة إلى وسائل الإعلام. و"تتطوع" "إسرائيل" في بث مشاهد الاستبداد، فهي على يقين أن هذه المشاهد لن تستفز أحداً في دول القرار، وفي المقابل فإنها ستضع المشاهد الإسرائيلي في "متعة" مشاهد الحرب التي يشنها جيشه.
بدورها، تعود وسائل الإعلام الإسرائيلية المركزية، إن كانت رسمية أو خاصة، إلى نهجها الذي يؤكد أنها شريكة في صياغة وتجنيد رأي عام لصالح موقف المؤسسة الحاكمة التي تهمين عليها عصابات المستوطنين المتطرفة وممثلوها في الحكومة، بدءاً من نتنياهو ذاته. ومُلخّص رسالة الدعاية الرسمية للإسرائيليين أنفسهم، أن "إسرائيل" هي "الضحية"، وأن كل شيء يبدأ من اللحظة التي تقع فيها عملية ضد هدف أو أهداف إسرائيلية، بعد سلخ هكذا عملية عن واقع الاحتلال والاستبداد والقتل البطيء لشعب بأكمله.
وصدرت الصحف اليومية الإسرائيلية على مدى الأيام الماضية، تحمل صوراً ومشاهد تعرض جرائم جنود الاحتلال وكأنهم في "مسيرات النصر". وهذا هو واقع الحال في قنوات التلفزة الإسرائيلية، بينما من يتجرأ على قول الحقيقة المناقضة للرواية الإسرائيلية، من أمثال الكاتب التقدمي غدعون ليفي، يلقى وابلا من الهجوم والتحريض الشرس عليه.
من الصعب معرفة كيفية تطور الأمور في الأيام والمرحلة المقبلة. ولكن منذ الآن، بالإمكان القول إن ما جرى هو مؤشر لحكومة ومؤسسة الاحتلال، على أن غطرستهما لن تنفع طويلاً أمام شعب لم يعد لديه ما يخسره، بعد أن خسر تقريباً كل شيء، إلا العزيمة والإرادة على التحرر من كل هذا. وإذا اعتقدت "إسرائيل" والصهيونية من فوقها، أن زرع اليأس والاحباط في شعب بأكمله كفيل بأن يقضي على القضية، فقد علّمت تجارب التاريخ أن لا وقت محدداً لانفجار الشعوب المقهورة؛ ف"إسرائيل" لم تكن تتوقع حتى مطلع كانون الأول (ديسمبر) 1987، ما الذي ستواجهه بعد بضعة أيام، فكان تفجر انتفاضة الحجر الباسلة، التي امتدت لسنوات، وقلبت الكثير من الأوراق الاسرائيلية محلياً وعالمياً.
ولكن "إسرائيل" تعي، من دون أن تجاهر، أن الانفجار التالي هو مسألة وقت، ولهذا نراها ترسل قطعان جنودها إلى كل زاوية وكل بيت لتبطش فيه، ظناً منها أن بإمكانها تأجيل ما هو قادم لا محالة. إلا أن هذا قد يؤجل الانفجار بعض الوقت، ولكن لن يمنعه كلياً.