كيف أصبحت الرياض بسعر نفطها، بالنسبة لواشنطن؟
الوقت
فالأسباب كثيرةٌ لتأكيد هذا الموضوع، وتحديداً أن الشرق الأوسط لم يعد الهم الأساسي لأمريكا، لكنه ما يزال أحد همومها. فيما يُعتبر وصول واشنطن للإكتفاء الذاتي من إنتاج النفط، وهو ما أشارت التقارير الأخيرة الى أنه سيحصل في العام ٢٠١٦، يعني حتماً إنتفاء السبب الرئيسي لإحتضان واشنطن للرياض. فماذا في الحقائق التي تُعيد رسم المشهد السياسي في المنطقة من بوابة النفط؟ وما هي دلالاته الإستراتيجية بالتحديد فيما يخص أمن الدول الخليجية وعلاقتها مع كلٍ من أمريكا والكيان الإسرائيلي؟
حقائق لا بد من معرفتها:
لا بد من الإشارة أولاً الى حقائق تؤكد مقولة إن النفط مقابل الحماية الأمنية لم تعد المعادلة التي تقوم واشنطن بإعتمادها اليوم. وهنا نشير للتالي:
في دراسة أجراها مركز أبحاث الأمن القوميّ في تل أبيب وهو المركز المُرتبط بالمؤسسة الأمنيّة الإسرائيليّة خَلُص الدبلوماسيّ الإسرائيليّ المخضرم، عوديد عيران، إلى أنّ التحالف التاريخيّ بين السعوديّة وأمريكا، والذي بدأ قبل سبعين عاماً في شباط من العام ١٩٤٥، لم يعد قائماً كما كان، مشيراً إلى أنّ الخلافات بين الرياض وواشنطن لا تقتصر على الموقف من التعاطي مع النفوذ الإيراني والأزمة السورية، بل يكمن أساساً في خوف حكّام الرياض من أنّ واشنطن ستصل في عام ٢٠١٦ الى قدرة إنتاج ١٠ ملايين برميل نفط يومياً، مما يؤدي لإنتفاء أصل التحالف التاريخي وهي معادلة النفط مقابل الأمن. وهنا أوضح الدبلوماسي وبكل ثقة أن هذا الأمر هو ما دفع العائلة الحاكمة إلى البحث عن دولة عظمى تحميها، لكنّه أشار إلى أنّه لا توجد أيّ دولة قادرة على ملء الفراغ الذي ستتركه واشنطن بالنسبة للرياض.
وفي نفس السياق، أشار خبراء في سوق النفط مؤخراً، أن قرار "أوبك” الذي صدر في تشرين الثاني الماضي بعدم خفض الإنتاج، أدى إلى زيادة العرض في السوق وبالنتيجة الى انخفاض أسعار النفط التي انحدرت من ١١٥ دولار في حزيران ٢٠١٤ إلى ٤٦ دولار في كانون الثاني الماضي. مؤكدين أن هذا القرار كان موجهاً للإضرار بصناعة النفط الصخري الأمريكية التي ظهرت في السنوات الأخيرة، والتي أدت إلى حصول واشنطن على الإكتفاء الذاتي فيما يتعلق بالنفط، مما قلص من حجم مشترياتها من النفط المنتج لدى دول "أوبك” وخصوصاً الدول الخليجية.
قراءة تحليلية في الدلالات:
لأن النفط يعتبر من الأسلحة الفتاكة، ولمن يعرف طريقة التفكير الأمريكية، يتيقَّن بأن واشنطن يستحيل أن تُبقي نفسها بحاجةٍ لأحد، لما في ذلك من تأثيرٍ على قدرتها في فرض نفوذها وسياساتها. وهنا لا نقول إننا نقف في صف أمريكا لكننا نوصِّف الواقع الذي لا يمكن أن ننكر فيه حقيقة القدرة الإستراتيجية التي تتمتع بها مراكز القرار في واشنطن، فيما يتعلق بوضع السياسات الإستراتيجية طويلة المدى. مع الأخذ بعين الإعتبار أن الطرف الآخر في نقاشنا هو السعودية والدول الخليجية تحديداً والتي لم تكن يوماً خارج دائرة الإحتضان الأمريكي، لدرجة أنها غرقت في تصورها لحاجة واشنطن لها. وهو ما يُجيب على تساؤلاتٍ كثيرة، لسنا في مورد بحثها الآن.
لذلك فإن أمريكا لا تتعاطى مع أحد من منطلق الإحترام أو التقدير المتبادل، بل تتعاطى معه بحسب مصلحتها. وهي التي تُتقن فن الإستغلال والتسويق لمشاريعها لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وفي دولٍ حكامها مرتَهنون لسياسات واشنطن، فيما يدفع شعوب المنطقة الثمن. وهنا نُشير الى الخطأ التاريخي السعودي الذي بقي لما يقارب السبعين عاماً، إذ يبدو أن الرياض ومنذ أن قامت ببناء علاقتها التاريخية مع واشنطن، إقتنعت بأن أمريكا ستبقى بحاجة لنفطها مدى الحياة. فأدخلت نفسها ومعها الدول الخليجية الأخرى في رهاناتٍ خاسرة أصلاً، وهو ما تُثبته الأيام التي نعيشها. فالأمن الذي قد تكون نعمت به الدول الخليجية لعقودٍ من الزمن، لم يعد موجوداً في ظل تفشي الإرهاب الذي صنعته الأيدي الخليجية وصدرته الى الدول العربية، ليرتد عليها بعد سقوط رهاناتها وتغيُّر الظروف السياسية. واليوم وبنظرةٍ سريعةٍ للأحداث، فإن السعودية كما الدول الخليجية لم تعد تنعم بالإستقرار لتدخل مراحل من إنعدام الأمن، بسبب التطرف التكفيري. وبعيداً عن معالجة الأسباب نصف الواقع لنقول، إن الدول الخليجية لم تعد ملجأ الباحثين عن الأمن، على الأصعدة كافة حتى الإقتصادية، وهو الأمر الذي يعني تراجع الإستثمارات الذي بدا جلياً بعد تفجيرات تنظيم داعش الإرهابي، الى جانب أنه كان من نتائج المغامرة السعودية على اليمن.
وهنا يجب الحديث عن أمرٍ أصبح واضحاً في السياسة الإستراتيجية لواشنطن وهو أن أمريكا بدأت تعدّ العدّة لتخفيف نفوذها في الشرق الأوسط، ونقل ثقلها الأساسيّ إلى الشرق الأدنى لعلها تستطيع إقامة توازنٍ مع التنين الصينيّ، الذي بات يُهدد المصالح الأمريكيّة تهديداً خطيراً. لكن من يظن بأن واشنطن ستترك الساحة فارغةً فهو واهم، لأن الوكيل الإسرائيلي بدأ ومنذ فترةٍ ليست بقصيرة التأسيس للمرحلة الجديدة هذه، من خلال رعايته للمصالح الإستراتيجيّة الأمريكيّة في المنطقة، وتحديداً في الدول الخليجية. وهنا أيضاً من المهم الإشارة الى مسألة خطيرة، تدل على أن هذه الدول أي الخليجية لا تتعلم من دروس التاريخ. فالكيان الإسرائيلي ليس بعيداً عن مبدأ حماية مصالحه في تحديد وبناء علاقته. فتل أبيب التي تعيش أزمة اقتصاديّة، ستجد فرصةً لها في عملها مع الدول الخليجية، مما سيفضي الى دعم إقتصاد الكيان الإسرائيليّ. ولعل حجم العلاقات الذي أشارت له فضائح ويكيلكس أو الصحافة العبرية، قد يجد لنفسه مبرراً ضمن هذا السياق من التحليل.
إذن، سقطت السعودية مع سقوط المعادلات ومعها الدول الخليجية. فمعادلة النفط مقابل الأمن لم تعد فعالةً، في زمنٍ يستمر فيه من يُحدد أهدافه بوضوح ويراهن على شعبه ومقوِّماته. فيما يمكن القول إن أمريكا خدعت الحكام العرب لما يقارب السبعين عاماً، واستغلت مقدَّراتهم، على حساب شعوبهم. وهو ما يجب الحديث عنه مطولاً، وبالتحديد مستقبل القضية الفلسطينية التي يبدو أن السعودية باعتها أيضاً وغرقت في علاقاتٍ مصيريةٍ مع تل أبيب.