بريكس و منظمة شنغهاي للتعاون و تصحيح القطبية العالمية
يونس أحمد الناصر
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي اختل نظام القطبية الدولية و انفردت أمريكا كقوة متغطرسة و جبَّارة بالتحكم بمصير البشرية دون وازع من ضمير أو أخلاق, تزرع الحروب على الكوكب و تغذي النزاعات, و قد يقول قائل بأن السياسة مصالح و لا علاقة لها بالأخلاق, وهذا خطأ فادح يعيد البشرية إلى شريعة الغاب و يتجاهل مسيرة البشرية الطويلة في ميادين الحضارة و إذا كانت ثنائية الخير و الشر قد رافقت وجود الإنسان على هذه الأرض كغيرها من المتضادات , كان من الواجب بمنطق القوانين الفيزيائية و سيرورة الحضارة البشرية إعادة تصحيح القطبية من الأحادية إلى الثنائية و ليس على البشرية بأي حال من الأحوال القبول بمنطق الجريمة و التسليم به, فلابد للمجرم من رادع يردعه و قانون يحاسبه , و إن المنطق يقتضي أيضاً بأن لكل جوادٍ كبوة , و لكن على الفارس الحقيقي أن يعتلي صهوة حصانه مجدداً و هذا هو بالضبط ما تفعله روسيا اليوم سليلة الاتحاد السوفييتي و روسيا القيصرية .
و هذا هو بالضبط ما يفعله قيصر روسيا الجديد فلاديمير بوتين و الذي قرر إعادة أمجاد روسيا القيصرية وإعادة القطبية الثنائية للعالم الذي يبحث عن مخرج لمآسي أحادية القطبية الأمريكية .
إن مجموعة بريكس و منظمة شنغهاي للتعاون , تشكلان بارقة أمل في التصحيح الهيكلي للنظام العالمي الجديد , و أصبحت الدول الصغيرة منها و الكبيرة تتسابق للانضمام إلى هذا التحالف الدولي الجديد الذي يمثل الجانب الخيِّر في مستقبل البشرية التي تعاني الويلات و الحروب اليوم .
ما سبق يستدعي التعريف بمجموعة بريكس و ظروف نشأتها و الدول المتحالفة فيها:
بريكس : هو مختصر للحروف الأولى باللغة اللاتينية// BRICS المكونة لأسماء الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم, وهي( البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.
عقدت أول قمة بين رؤساء الدول الأربع في( ييكاتيرينبرغ – روسيا) في حزيران 2009 حيث تم الإعلان عن تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية , وانضمت دولة جنوب أفريقيا إلى المجموعة عام 2010, فأصبحت تسمى بريكس بدلا من بريك سابقاً.
تشكل مساحة هذه الدول ربع مساحة اليابسة، وعدد سكانها يقارب 40 % من سكان الأرض, كما أن المتوقع بحلول عام 2050 أن تنافس اقتصادات هذه الدول، اقتصاد أغنى الدول في العالم حالياً – حسب مجموعة غولدمان ساكس البنكية العالمية، ومن المتوقع أن تشكل هذه الدول حلفًا أو نادياً سياسياً فيما بينها مستقبلاً.
منظمة شنغهاي للتعاون(سكو): هي منظمة دولية تضم عدة دول في شرق آسيا, تأسست في العام 2001 وتضم كلاً من الصين، روسيا، كازاخستان، قرغيزيا، أوزباكستان، طاجيكستان- باستثناء أوزباكستان، كانت الدول الأخرى أعضاء في "خماسي شنغهاي” التي تأسست في العام 1996، بعد دخول أوزباكستان في المنظمة، سميت المنظمة باسمها الحالي.
الأهداف المعلنة للمنظمة , هي مكافحة الإرهاب ومواجهة التطرف والحركات الانفصالية، والتصدي لتجارة الأسلحة والمخدرات .
إلا أن الكثير من المحللين يراها كحلف عسكري جديد يهدف إلى مواجهة حلف الناتو, و اليوم لم يعد من الممكن حصرها فقط فيما سبق ، إذ ينظر إلى المنظمة باعتبارها أقرب ما يكون إلى حلف سياسي وعسكري، ويتم العمل على تطويره اقتصادياً.
و توسيع عضوية "منظمة شنغهاي للتعاون” (سكو)، وتوطيد أواصر العمل المشترك بين الدول المنضوية فيها، يساهم بثقل في إنضاج معادلات عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية عالمية تعكس الموازين المستجدة و قد قررت القمة الأخيرة التي تستضيفها مدينة آوفا الروسية ما بين 8-10 من شهر تموز (يوليو) الجاري مجموعة من القرارات في صدارتها مكافحة الإرهاب.
فقد دعا زعماء دول "شنغهاي” إلى تكثيف الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب , وجاء في البيان الختامي الصادر عن القمة: "أعربت الدول الأعضاء عن قلقها البالغ لتنامي أبعاد الإرهاب والتطرف الدوليين، وتوحيد جهود مختلف الجماعات الإرهابية. وتدعو الدول إلى تكثيف الجهود المشتركة للمجتمع الدولي لمكافحة المنظمات الإرهابية وذلك بمراعاة القرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي”.
تسوية الأزمات في الشرق الأوسط دون تدخل خارجي و مكافحة التطرف وإلى العمل الوقائي لمنع انتشار التطرف الديني والتعصب العرقي والطائفي وكراهية الغير وتنامي نزعات التطرف في المجتمع”.
وأضاف البيان الختامي: "وإلى جانب التعاون على مستوى أجهزة الأمن بما في ذلك الهيئات القضائية ومراكز التحليل، سيولى اهتمام خاص في هذا العمل لاستخدام قدرات مؤسسات تعليمية وعلمية ووسائل إعلام ومنظمات غير حكومية ودينية وأساط أعمال, كما رحب زعماء منظمة شنغهاي للتعاون بالجهود الرامية إلى تسوية قضية برنامج إيران النووي وأشار البيان الختامي إلى أن ذلك يعزز النظام الدولي لمنع انتشار الأسلحة النووية ويساعد على تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة.
و فيما يتعلق بتوسيع منظمة شنغهاي للتعاون فقد رحّب البيان الختامي لقمة منظمة شنغهاي بتوسيع المنظمة وأعربت دول المنظمة عن ارتياحها لبدء عملية انضمام الهند وباكستان ولمنح بيلاروس وضع دولة مراقبة ومنح كل من أذربيجان وأرمينيا وكمبوديا ونيبال وضع دول شريكة في الحوار, كما تطرق المجتمعون إلى خطر زيادة قدرات الدفاع الصاروخي من جانب واحد و الذي سيلحق ضررا بالأمن العالمي وسيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في العالم, و على أهمية تسوية الأزمة الأوكرانية على أساس اتفاقات مينسك فقد دعت دول منظمة شنغهاي للتعاون إلى إحلال السلام في أوكرانيا بشكل عاجل على أساس تنفيذ كافة الأطراف اتفاقات مينسك بالكامل, و عدم وجود بديل للتسوية السياسية الدبلوماسية للنزاعات في مختلف أنحاء العالم على أساس الالتزام الدقيق بمبادئ القانون الدولي, و رفض العقوبات أحادية الجانب, كما أعلنت دول منظمة شنغهاي بأنها تؤيد التعاون الدولي الواسع في مجال تجاوز الهوة في المجالين التكنولوجي والاقتصادي الاجتماعي بين الدول على أساس السماح لكل الدول باستخدام مزايا العولمة الاقتصادية على أساس المساواة ودون أي تمييز. فيما أعلن الكرملين بأن انضمام إيران إلى منظمة شنغهاي للتعاون سيتقرر بعد رفع العقوبات عنها .
و بالتالي فإن منظمة شنغهاي تواجه الخطر الأمريكي و إن انضمام الهند وباكستان إلى عضوية الـ(سكو) سيمكن المنظمة من معالجة التداعيات المحتملة في أفغانستان، وانعكاساتها على دول الجوار، بعد أن تنسحب منها قوات (إيساف) التابعة لحلف شمال الأطلسي، لاسيما في ضوء الفوضى الأمنية التي تشهدها العديد من البلدان، نتيجة تمدد تنظيم (داعش)، وأفغانستان من الدول المرشحة لتمدد التنظيم، وهو ما سيشكل تحدياً أمنياً كبيراً لكل دول جوار أفغانستان, وفي الإطار الأوسع، إن انضمام الهند وباكستان إلى "منظمة شنغهاي للتعاون”، كدولتين دائمتي العضوية، يرفع عدد الدول النووية في المنظمة إلى أربع دول، روسيا والصين والهند وباكستان، ويصبح عدد سكان دول المنظمة ما يقارب نصف سكان العالم. ورغم أنه ليس من أهداف المنظمة تشكيل حلف عسكري، ينافس حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن مستوى التنسيق العسكري المتقدم بين الدول الأعضاء في الـ(سكو) يخلق معادلة جديدة على المسرحين الآسيوي والأوروبي، ستشكل حاجزاً أمام مخططات (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التي تتطلع من خلال خططها الإستراتيجية للقرن الحادي والعشرين نحو السيطرة على منطقة المحيط الهادي وشرق آسيا، فضلاً عن نفوذها التقليدي الكبير في منطقة الشرق الأوسط والخليج الفارسي.
وخلال السنوات الماضية استطاعت "منظمة شنغهاي للتعاون” أن تفرض نفسها على المسرح الدولي، في عالم متعدد الأقطاب وليس محكوماً بقطبية أحادية أميركية، والارتقاء بفاعلية ودور الـ(سكو) إلى هذا المستوى سيفضي إلى قلب موازين النسق الدولي برمتها، فالقدرات الاقتصادية والعسكرية لدول المنظمة تفوق قدرات الولايات المتحدة الأميركية ودول (الناتو)، أو على الأقل توازيها. واستشعاراً منها للدور الذي باتت تلعبه منظمة الـ(سكو) في وقت مبكر حاولت الولايات المتحدة التخريب على عمل المنظمة، عبر محاولة الانضمام إلى عضويتها بصفة مراقبة، وبعد رفض طلبها حاولت أن تفرض مراقبة على المناورات العسكرية المشتركة لدول المنظمة، وقوبل هذا الطلب بالرفض أيضاً, ومما لا شك فيه، يبدو أن كل العوامل الموضوعية تصب في صالح تطوير عمل "منظمة شنغهاي للتعاون” وتوسيعه، وتحوله إلى قطب دولي فاعل، عسكرياً وأمنياً واقتصادياً وسياسياً، ودخول الهند وباكستان نقلة نوعية جديدة في مسار المنظمة.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في بيان له: إن دول بريكس "تظهر النظام الجديد للعلاقات الدولية” حيث تنشأ "مراكز جديدة للقوة” معتبرا أنها رد على "عالم تسيطر عليه الولايات المتحدة”.
بدوره وصف فيودور لوكيانوف رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع الروسي في مقال بصحيفة روسيسكايا غازيتا الروسية مجموعة /بريكس/ بأنها "تبشر بولادة عالم جديد لا يهيمن عليه الغرب.
وعلى هامش القمتين عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأربعاء اجتماعات ثنائية مع عدد من قادة دول /بريكس/ وركز مباحثاته مع رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما على أولوية إطلاق برنامج تطوير الطاقة النووية في جنوب أفريقيا, فيما تناول الرئيس بوتين خلال لقائه رئيس الوزراء الهندي ( نارندرا مودي) في المناسبة ذاتها موضوع التعاون في إنشاء منطقة التجارة الحرة بين الهند والاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
وعلى هامش فعاليات قمتي /بريكس/ و/منظمة شانغهاي للتعاون/ وقعت المصارف المركزية لدول /بريكس/ التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في موسكو الثلاثاء اتفاقية حول شروط الدعم المتبادل في اطار صندوق احتياطي مشترك للعملات, كما تم الإعلان عن إطلاق عمل بنك /بريكس/ للتنمية بهدف تمويل مشاريع البنية التحتية في دول /بريكس/ والدول النامية والذي يعد احد اهم النتائج الملموسة لتعاون مجموعة /بريكس/ كما وقعت دول /بريكس/ اتفاقية لإنشاء آلية مشتركة للاستثمار في مشاريع البنية التحتية بمشاركة الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة ومجموعة /اي دي اف سي/ الهندية وشركة /بي تي جي/ باكتشول وصندوق طريق الحرير الصيني ومصرف التنمية في جنوب افريقيا, و دون شك بأن هذا هو حلف جديد في وجه التمدّد الأطلسي( الأميركي – الأوروبي) كما أنه دفاع قلب العالم عن نفسه، كما يصفه علماء الجيوبوليتيك، أمام هجوم الدولة البحرية الأقوى و أعني الولايات المتحدة, كما يقول بريجنسكي في كتابه ( لعبة الشطرنج الكبرى), كما أن هذه المنظمة تجسيداً لرؤية روسية – صينية لعالم ما بعد النيوليبرالية و رداً آسيوياً على العولمة بمفهومها الغربي "لأمركة العالم”، بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي، كما أن دعوات أعضائها للحوار بين الحضارات المختلفة تشكّل جواباً على بطلان دعاوى ( صراع الحضارات) التي نادى بها هنتغتون كتفسير لمسيرة التاريخ الحضاري للبشرية، و إشارة على أن التاريخ لم ينتهِ كما بشّر المفكر الأميركي فوكوياما في كتابه ( نهاية التاريخ.
و كما ذكرت فإن بريكس و منظمة شنغهاي للتعاون هي بارقة أمل بل أمل يتحقق و يرسم تحولاً عالمياً جديداً مع بدايات القرن الحادي و العشرون و تصحيح لنظام القطبية التي فقدتها البشرية في نهاية القرن العشرين .