على مسار النهاية… الجولة العسكرية الثالثة (الحلم والأسطورة)
نمر أبي ديب
تعيش المنطقة منذ 7 أكتوبر، لا سيما الكيان “الإسرائيلي” مرحلة وجودية استثنائية من حيث الروابط الهشة التي جمعت مستوطني الكيان بجغرافيا غير مضمونة الاحتواء، لا يملك فيها النبض “الإسرائيلي” أدنى مقوّمات التعايش والتماهي أو الانخراط، ضمن قوميات مختلفة جمعتها الروابط الاجتماعية والتاريخية المنبثقة من حاضر وماضي شرق أوسطي، لم تبلغ معه استثنائية الخلافات، وحتى الاختلافات المتنقلة على مسار الأزمنة مرحلة إسقاط الروابط أو مقاربة حق الوجود من طبيعة إنسانية مختلفة، كما هو حال “الكيان الإسرائيلي” القائم على (مسلّمات توراتية ونصوص تلمودية) تحاكي منطق الاختلاف الجوهري وتمنح المقاربات السياسية إمكانية نسب الموقف “الإسرائيلي” كما القرارات والأعمال الحربية إلى أبعاد، لا بل “توصيات تلمودية” يُسَوّق لها اليوم كبار الحاخامات في كيان الاحتلال “الإسرائيلي”، وهذا ما استند إليه بنيامين نتنياهو في بدايات حرب غزة، حيث دمج ما بين الواقع الانهزامي لكيان الاحتلال وبين عاملين النبوءة التوراتية من جهة والتعاليم التلمودية، ما يؤكِّد اليوم على جملة عوامل أساسية من بينها أنّ مسار النهاية المنبثق من عقدة الثمانين وما يليها على مسرح الأحكام كما الدوافع التلمودية، خاضع بشكل أو بآخر لجملة المعايير الدينية التي تشكّل على مسرح “الأسطورة والنبوءة”، مقومات الولادة العبرية لما يُسمّى “إسرائيل الكبرى”.
ما تقدَّم يضع الدول المعنية بـ المساحة الجغرافية لـ “إسرائيل الكبرى”، في دائرة الاستهداف الوجودي من الكيان “الإسرائيلي” نفسه، إذ تشكّل صلابة الأنظمة كما قوّتها الفاعلة حجراً عثرة ومانعاً استراتيجياً، على مسار الترجمة التلمودية لفصول الأسطورة العبرية.
ما يحدث اليوم جزء لا يتجزأ من فتح وتسهيل القنوات الزمنية حسب المعتقد “الإسرائيلي” والهدف إتمام فصول الترجمة الزمنية لولادة “المسيح الدجال”.
ما يجري يلزم من زوايا مختلفة كيان الاحتلال بحروب وخطوات تهدّد بموازين ومفاعيل “الصحوة العالمية” مستقبل “إسرائيل”، بمعنى آخر وجودية الدّولة التلمودية ودورها الإقليمي الفعلي والفاعل.
انطلاقاً مما تقدّم يعيش الكيان “الإسرائيلي” ازدواجية التوفيق بين ثلاثية “أسطورة إسرائيل الكبرى، موازين القوى الحالية وعقدة الثمانين”، التي أنهكت بشكل واضح كيان الاحتلال، إذ يمكن القول إنّ ما حدث في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر حتى يومنا هذا يندرج ضمن إطار الجهد “الإسرائيلي”، الهادف إلى عبور وتخطي جملة العوامل الزمنية لعقدة الثمانين بعد تلمّس “مستحقاتها الوجودية، ذات الأبعاد الكارثية” التي وفَّرتها عملية “طوفان الأقصى”.
شكلت الأحداث المستمرّة على الساحتين الفلسطينية واللبنانية يُضاف إليها الساحة الإيرانية، النواة الأساسية لـ “الجولة العسكرية الثالثة”، على مسار “النهاية الحتمية لكيان الاحتلال الإسرائيلي”، وهو بمثابة مقدمة عسكرية تحاول من خلالها قيادة الكيان الهروب إلى الأمام، إلى ما بعد “الثمانين” بالعمل على “تفريغ التحديات المنتظرة في حينه” من مضمونها الاستراتيجي الكبير، وأيضاً من عناصر القوة التي يمكن أن تُفعِّلها قوى أساسية إقليمية وحتى خارجية، في مقدمتها اليمن عبر المسالك البحرية “البحر الأحمر/ باب المندب” وغيرها من المواقع، يُضاف إلى ما تقدّم إيران وحزب الله.
يعيش الداخل “الإسرائيلي” ازدواجية تحدّ وجودي نابع من حقيقتين: الأولى دينية يتربّع من خلالها الكيان على عرش “الوعد والأسطورة” غير مضمونة النتائج في هذه المرحلة انطلاقًا من كونها سيفاً ذو حدّين، الأول يتمثّل بـ الجزء القادر على الانتقال بـ كيان الاحتلال إلى مستقبل الأسطورة الذي يشهد رغم القدرات القتالية الإسرائيلية و”الدعم الأميركي المطلق”، المراحل الأخيرة للتلف الكياني الذي يعاني منه كيان الاحتلال، والعالم يشهد حجم الترهّل الّذي أصاب جيش الاحتلال في كلّ من غزة ولبنان، الحقيقة العسكرية التي تحدث عنها بنيامين نتنياهو بإسهاب، حين برّر طلب “إسرائيل” وقف إطلاق النار مع لبنان وقال بكلّ وضوح وصراحة “إنّ الجيش الإسرائيلي في حالة ترهّل عسكري ولوجستي ويحتاج إلى إعادة تأهيل”.
الحقيقة الثانية تتعلق بماضي الأسطورة التلمودية، التي يُفترض أن تقود الكيان إلى الالتحاق الوجودي من بوابة التراجع، بركب الماضي المستمرّ، وهو ما أجمع عليه كبار المفكرين الاستراتيجيين، وفي مقدمّتهم محللون يهود سياسيون وعسكريون، يُضاف إليهم بعض رجال الدين الذين تحدثوا عن زمنية “خراب الهيكل” الأوّل والثاني كـ حالة تاريخية، وأيضاً عن الخراب الثالث كـ فرضية للمستقبل مرفقة بحديث عن انتهاء الدور والحضور الفعلي للحالة الاستعمارية ذات النشاط الاستيطاني في المنطقة، (أيّ ما يسمّى ويُعرف اليوم بـ كيان الاحتلال الإسرائيلي).
الحديث عن الجولة العسكرية الثالثة لا يشترط في حدّه الأدنى وجود ترميز عددي نهائي لجولات عسكرية يحدّد تراكماتها الزمنية، نواة المرحلة الأخيرة من عمر الكيان، لكنه يفتح باب الاجتهاد الفكري كما الحديث المسبق عن جولات عسكرية مقبلة ذات طابع استثنائي أكثر ضراوة وأشدّ تأثيراً على الانتظام العالمي، الذي فرض بشكل غير قانوني، كيان الاحتلال “الإسرائيلي” كـ أمر واقع عسكري استعماري في المنطقة.
تحاكي الأسطورة التلمودية في بعدها الترميزي الصّرف “انتصاراً كاملاً لإسرائيل”، وهذا يفتح باب الحديث والجزم بأنّ الكيان الإسرائيلي بلغ مراحل متقدمة من الشيخوخة الزمنية، دون أن تبلغ “إسرائيل” مع تلك الشيخوخة بالرغم من قدرتها التدميرية، ومتدرّجات القوة الاستثنائية التي تملكها مرحلة الصياغة الأحادية لعوامل التفوّق وتحقيق الانتصار، بمعزل عن الدعم الأميركي والاشتراك المباشر، ما يؤكّد من منظار “الأسطورة التلمودية” نفسها أنّ سبل وشروط ترجمتها الفعلية لم تتوفر بعد، ومعادلة الثمانين “حدّ زمني فاصل”، ما بين ماضي الأسطورة ومستقبلها المؤجّل حتى إشعارٍ آخر.
ما تقدّم يفسِّر إلى حدّ ما الجنون “الإسرائيلي” المنبثق من بُعدين دينيين كما ذكرنا سابقاً قائم على (مسلّمات توراتية تليها نصوص تلمودية ملزمة)، وآخر سياسي يتمحور حول مسألتين: الأولى تتمثّل بمحاولة إنهاء أو تأجيل المسائل القضائية كما القانونية المتعلقة بشخص رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو.
المسألة الثانية تتعلق بما عرف سابقاً بـ”ملوك إسرائيل”، المرتبة التي يسعى بنيامين نتنياهو إلى بلوغها، والتربّع من خلالها على عرش السياسة “الإسرائيلية”، وهنا تجدر الإشارة، إلى أنّ مفهوم الانتصار “الإسرائيلي”، النابع من داخل الأسطورة الدينية وحتى من خارجها السياسي، لا تكتمل متدرّجاته البنيوية كما ظروفه السياسية، في مراحل عجزت فيها “إسرائيل” عن إنتاج الملوك، لذا تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ التباينات السياسية في كيان الاحتلال والدعوى القضائية المقدمة، جعلت من بنيامين نتنياهو فريقاً “يعمل لنيل العفو القضائي من إسرائيل”، لا ملكاً يرتقي بـ كيان الاحتلال الإسرائيلي إلى مستوى (الحلم التاريخي والأسطورة).
مما لا شك فيه أنّ بروباغندا القوة التي يُظهِّر من خلالها كيان الاحتلال “الإسرائيلي” فائض السطوة العسكرية حالة “مزيفة”، يملك فيها كيان الاحتلال الإسرائيلي “حق” الدعاية والتعتيم الإعلامي على أضخم موجة تدميرية شهدتها “إسرائيل”، في حين تملك الولايات المتحدة كامل مستحقاتها الميدانية، كما مستلزماتها العسكرية، وسبل الحماية الاستراتيجية لضمان “أمن إسرائيل”، في مراحل مؤسسة لانهيارات كبرى، حساسة ومصيرية، تدرك من خلالها أميركا كما “إسرائيل” أبعاد العجز النابع من سلبيات الترهّل في الدرجة الأولى، كما إعادة تأهيل الجيش وغيرها من العناوين المؤسسة لـ “نهاية إسرائيل الحتمية” نهاية أسطورة غلبها الزمن وغابت عنها مؤثِّرات الترجمة الوجودية…