غزة والمبادرة الجديدة لوقف اطلاق النار
حول قضية حرب غزة، يتم مرة اخرى التطرق لوقف اطلاق النار. فالوفد الاسرائيلي يزور قطر، ومكوكية التواصل مع القاهرة، والرئيس الاميركي يتحدث عن ضرورة تنفيذ وقف اطلاق النار فيما هدد الرئيس الفرنسي انه اذا لم يتم ايقاف القتال فسيعترف الى ثلاثة اشهر بالدولة الفلسطينية.
بالتزامن تضاعفت 300% هجمات المقاومة الغزاوية الايام الاخيرة على قوات الكيان الغاصب. كل هذه الوقائع تكشف عن حقيقة بأن الكيان الصهيوني لا يتمكن بالحرب التوصل الى اهدافه المعلنة. وستتضح المعالم كما سنشير:
1 – ان حرب غزة تمر بشهرها التاسع عشر لتكون أطول حرب يخوضها الكيان الغاصب، وبلغت جرائمه اوجها. فقد قتل ستين الف شخص وتم اصابة ما لا يقل عن الف آخرين، وهو مستمر في نهجه الدموي. فان وقع 1% من هذه الجرائم على منطقة اوروبية فمن المؤكد ان تدخل الحكومة البريطانية والفرنسية والالمانية بكل امكاناتهم العسكرية لايقاف الجرائم الحاصلة. الا ان ما شهدناه من ردود على جرائم الكيان الاسرائيلي من قبل مختلف حكومات العالم لاسيما الدول الداعية لحقوق الانسان، لهو أمر ميئوس منه.
فلماذا كل هذا التغافل؟ لان احد الطرفين حكومة عميلة والطرف الثاني شعب مسلم. وفي هذه الحرب تستمر مقاومة شعب من دفاع، وهذا ما يعكس التغيير المحسوس للمعادلة.
بأن لا يسمح شعب بامكاناته المتواضعة لعدوه المتمترس بالاسلحة بلوغ هدفه، فهي معادلة جديدة وان لا يتمكن السلاح ان يسجل فصل خطاب حرب كبيرة والكثير من مفكري الكيان الاسرائيلي قد شددوا خلال الاشهر الاخيرة على عدم تمكن "اسرائيل" تحقيق اهدافه بقوة الجيش.
2 – ان صمود المقاومة وشعب غزة في هذه الاشهر التسعة عشر قد غير الكثير من القواعد الداخلية والخارجية للحرب.
وان الانتقاص من الكيان الاسرائيلي وحماته اصبح عالمياً، والمشاريع الداعمة لبقاء "اسرائيل" ركنت للحاشية، فيما أقر نتنياهو الاحد الماضي بان الامتناع عن الاعتراف الرسمي بـ"اسرائيل" خلال المائة عام الماضية لم يتحسن، وان التطبيع بات اكثر من ذي قبل غير ممكن.
فالاوروبيون والدول العربية الوفية للاتفاقيات السرية مع الكيان قد قالوا لتل ابيب انه من دون تراجع تل ابيب لا يتم التوصل لاي تفاهم معها. وبالتزامن مع هذا الموضوع توسعت العلاقات الاقليمية والدولية مع اكبر عدو لـ"اسرائيل" – وهي ايران – بشكل جاد.
فعلاقات ايران الاقتصادية مع الصين وروسيا والهند في تصاعد كما ان المفاوضات غير المباشرة في مسقط بين الوفد الايراني والاميركي ورغم احاطتها بالسرية، ولكن بشكل كلي تحسب لايران مكانة افضل. في ظل هذه الاجواء كلما تتصاعد الاصوات الحمقاء للمسؤولين الاسرائيليين ضد ايران، ينعكس عليهم بالانزواء العالمي. فالجميع يعلم انه بعد 25 عاماً من حرب لا طائل منها ومكلفة، فلا ترغب اي دولة باستئناف الحروب. من هنا فان التهديدات التي تعطي صبغة الحرب يقل تصديقها. على ذلك حين يقول نتنياهو بعدم القبول بالتخصيب في ايران واستعداده الهجوم على المنشآت الايرانية فلا يأخذها العالم محمل الجد. ولذا صار واضحاً ان استخدام "اسرائيل" لغة الحرب يختلف اختلافاً اساسياً عن اللجوء الى الحرب.
وفي عبارة فان المقاومة في غزة ولبنان والعراق واليمن وفي ايران قد جربت القدرة الهجومية وكذلك الصمود أمام الضغوط. اذن لا يمكن باستخدام حربة العمليات العسكرية فرض شيء على هذه الدول.
3 – ان ارتفاع الاصوات في المنطقة والعالم وتمركزها على الاتفاق على مشروع جديد يبنى على ايقاف حرب غزة يعكس بوضوح انغلاق المسار الحربي. فالكيان الاسرائيلي بعد انتهاء المرحلة الاولى من وقف اطلاق النار قد جعله جانباً بشكل عملي واستجد لغة الهجوم وبدأ جولة جديدة من الجرائم، ولكن رغم تحمل الجانب الفلسطيني لخسائر ولكن لم يحصل شيء. فحركة حماس التزمت ضبط النفس تماهياً مع الاطراف الضامنة لوقف اطلاق النار، اي الادارة الاميركية والمحور العربي الضاغطة على "اسرائيل" لاستمرار وقف اطلاق النار. وحتى في مرحلة اطلقت سراح رهينة من التبعية الاميركية الاسرائيلية مع اربعة جثامين، كي لا تخل اميركا بالمرحلة الثانية والثالثة من وقف اطلاق النار، فما كان من حركة حماس بعد ان شاهدت الوضع الميئوس منه استأنفت عملياتها ضد الماكنة الحربية للكيان الصهيوني وقواته المعتدية، لتضيف من عدد الجنود الصهاينة المقتولين، ولتزداد الضغوط الداخلية على نتنياهو.
وحسب بعض التقارير فان نتنياهو قد طلب بعد ان تم انتخاب ترامب رئيساً للجمهورية فرصة اللقاء به بعد اسابيع وقد اعطي تلك الفرصة. ولكن بالرغم من ان "اسرائيل" لم تتمكن من تنظيم المسار بحيث تتحقق فكرة نتنياهو اي "ان تنتهي الحرب بفخر" ولذا قبل انه خلال اللقاء الثاني لنتنياهو مع ترامب، ذكر الجانب الاميركي ان الوقت استنفد وينبغي ان يغلق هذا الملف. بالطبع كان ترامب قد اكد على ضرورة استمرار الاجراءات الامنية – الاغتيالات – ضد المقاومة، واستمر الكيان الاسرائيلي في هذا المسار بعمليات الاغتيال ضد المقاومة الغزاوية وابعد من ذلك. وقيل ان ترامب قد حدد – في هذا اللقاء – لتدخلات الحكومة الاسرائيلية اطاراً يشمل الدول؛ مصر والاردن ولبنان وسوريا.
4 – بالتزامن مع هذه التحولات سعى الكيان الاسرائيلي عن طريق لوبي صهيوني مقتدر في الهيئة الاميركية الحاكمة للحصول على ضمانة استحصال مصالح الكيان في اي تنظيم لمعادلات المنطقة، وعلى ذلك وجه كل من "مايكل والتز" مستشار الامن القومي، و"بيت هغس" وزير الدفاع، و"شان دافي" وزير المواصلات، و"سكوت بسنت" وزير الخزانة، و"مورغان ارغاس" مساعد ويتكوف، و"تومي بروس" المتحدث بأسم وزارة الخارجية، و"جون رتكليف" رئيس المخابرات المركزية، و"سباستين غوركا" المساعد الخاص لرئيس الجمهورية، و"مايك هاكبي" سفير اميركا لدى الكيان، و"دين بانجينو" مساعد الـ"اف بي آي، و"الكس فايفر" مساعد شؤون العلاقات في البيت الابيض، وجهوا ضغوطاً شديدة على ترامب. وهذا الموضوع يعكس مدى الخلل في نظم العلاقات بين اميركا والكيان الصهيوني، وعامله الاساس هي ايران. وهذا المسار يقول لـ"اسرائيل" ان اميركا لا تتمكن ان تصل لبر الامان في فكرة الحرب ضد ايران، هذا في الوقت الذي ليس بامكان "اسرائيل" القيام بعمل عسكري ضد ايران دون دعم اميركي. وحتى ان "اسرائيل" لا تتمكن كذلك من ان تفكر في حرب في بعد منها تكرار لـ"وحدة الساحات".
5 – ان طلب وقف اطلاق النار من قبل المقاومة مع مواكبة عالمية واقليمية ومع رضوخ الكيان الغاصب لهذا الطلب لهو علامة على القبول بتحول مهم في ملف غزة وفلسطين بانه ليس محدوداً بالوجهة العسكرية.
ان حماس قد طرحت قضيتين اساسيتين: ايقاف الحرب وادارة غزة من قبل فريق تكنوقراط يتمتع بدعم الاطراف الفلسطينية.
ان ايقاف الحرب في نفق الاتفاق سيعرض "اسرائيل" الى اضطراب داخلي اشد، اذ ان نهاية الحرب حسب هذه المعادلة هي اهانة لـ"اسرائيل" ويعرض قدرات "اسرائيل" العسكرية والامنية – بالرغم من التكاليف الباهظة وعدم تحقيق الاهداف مباشرة – يعرضها الى تحد كبير، ويحرك الآخرين على استهداف الكيان بضربات شبيهة بالسابع من اكتوبر. كما ان البحث بخصوص مجيئ حكومة توافقية أو لجنة تكنوقراط هو كذلك ضربة للسياسة الاسرائيلية، اذ ان مع تنفيذ هذه الفكرة فان حماس ليس ستحفظ سلطتها على غزة وحسب بل ستتمكن من بسط هيمنتها على الضفة الغربية كذلك.
سعدالله زارعي