المفاوضات وضعت حداً للمزايدات الاميركية
"اسرائيل" التي لطالما راهنت على الحل العسكري وانه لا بديل لتغيير الشرق الاوسط إلا بمهاجمة ايران، صعقت بدبلوماسية ايران التي هي كحد السيف من اي جهة تتعامل معه يعطي الغرض المطلوب منه.
فالنفس الطويل الذي تعرف به الدبلوماسية الايرانية سترهق اميركا عاجلاً أم آجلاً، وما تمتاز به ايران من برغماتية حيال مشاريعها الستراتيجية لن يجعلها تتنازل عن مشروعها النووي وعن مستوى التخصيب، والاوراق التي لن تلعب بها هي قدراتها الصاروخية البالستية وحجم المسيرات الدقيقة التي تمتلكها. والبديل الآخر الذي لا تتخلى عنه هو الارصدة المجمدة في الخارج والتي تفوق على 25 مليار دولار. ولذا نجد ان السيد عراقجي هو من حدد اطار التباحث والتزم الجانب الاميركي بهذا الاطار، الا وهو غلق صنبور العقوبات، ولم تعد ايران تفاوض من نقطة البداية نفسها التي انطلقت منها في اتفاق 2015، فهي اليوم في موقع اقوى من حيث التطوير النووي وترفض اي اتفاق يوقف برنامجها، وليست مضطرة لتقديم تنازلات استراتيجية، فهي الاكثر قدرة على استثمار اللحظة لبراعتها الدبلوماسية.
ان هذه النتائج ابقت نتنياهو ساكتاً وهذا دليل خوفه من المفاوضات اذ ليس دائماً السكوت علامة على الرضا، لاسيما وان الاعلام الاسرائيلي بات يتندر من حالات حماس نتنياهو وتبجحه قبل بدء المفاوضات، فقد هاجمته القناة 24 ووجه رئيس حكومة الكيان الاسبق "ايهود باراك" انتقاداً لاذعاً حين قال "عاد نتنياهو من واشنطن مهزوماً ومهاناً فالولايات المتحدة تبدأ مفاوضات مباشرة مع ايران. ان "اسرائيل" تقف على حافة الهاوية ونتنياهو يواصل الحرب من اجل منع انهيار حكومته. انها حرب خداع لا يقودها تفكير ستراتيجي او سياسي بل يقودها الحاجة الشخصية والسياسية". فقد كان نتنياهو يراهن على تفكيك البرنامج النووي الايراني بأكمله، وان "اسرائيل" لا تتمكن من مهاجمة ايران لوحدها فكانت تضغط على اميركا لتكون الضربة دولية، فتفاجأ بتصريح ترامب بأن الخيار العسكري ليس بالمفضل، وان المفاوضات تسير بشكل جيد.
ويبدو ان ترامب يراهن على تقديم عرض شامل يتجاوز النووي الى الاقتصاد، وادواته تبدأ بالتجريد الاقتصادي ولا تنتهي باستخدام الجيوش، فهو يحاول متابعة سلفه من خلال تجنب تبديد الطاقة في الصراعات وفي المقابل بسط البرجوازية هيمنتها على مصادر الثروات الطبيعية وهو مبدأ الرئيس الاميركي الاسبق "جيمس مونرو"، وإلا فان السياسة الخارجية لاميركا هي في الغالب سياسة رد فعل ونفعية. اذ بعد حرب فيتنام ونتائجها اتضح مدى النقص في الرؤية الستراتيجية لدى صناع القرار السياسي – العسكري في اميركا، فيما السياسة القومية لم تجمع في وثيقة واحدة وانما تستخرج من مجموعة تصريحات رؤساء الجمهوريات، ومن خلال وعود قطعت خلال عملية انتخابية، لذا احتل الملف الايراني موقعاً محورياً في حسابات الرئيس ترامب الذي كان يلوح بالحرب بينما يغازل بفكرة التوصل الى اتفاق تاريخي مع ايران التي لديها رغبة حقيقية لاتفاق يفضي الى رفع العقوبات الاقتصادية ويمنحها متسعاً من الوقت لاعادة تموضعها الاستراتيجي. وهذا ما نستشفه من تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية "اسماعيل بقائي": "ان موقف ايران كان واضحاً وهو ان الموضوع المطروح للنقاش هو فقط الملف النووي ورفع الحظر ولن يكون لدينا اي حديث مع الجانب الاميركي حول اي موضوع آخر. هذا كان اساس عملنا وقد تم الالتزام بهذا النهج في مسقط ايضاً".
ان هذه السياسة الحكيمة في ادارة الملفات تقف وراؤها قيادة حكيمة بالطيع، فابرز ما يلفت من تصريح بعد اجراء المفاوضات غير المباشرة في مسقط هي كلمة قائد الثورة الامام الخامنئي لدى استقباله اول امس كبار قادة القوات المسلحة، حين قال: "ان التقدم الذي احرزته ايران اثار غضب واحباط اصحاب النوايا السيئة ... معتبراً الوجود الاسلامي والمستقل للنظام الاسلامي هو العامل الذي يثير العداء تجاهه، وان ما يثير حساسية العدو ليس اسم الجمهورية الاسلامية بل ارادة بلد ان يكون مسلماً مستقلا وذا هوية ولا يعتمد على الاخرين في الاعتزاز بكرامته".
انها دروس في الحياة لا يستغني عنها اصحاب النهج المقاوم في مسيرتهم الحساسة لاسيما وهم يمرون في احلك ظروف الفتنة المحيطة بالجميع "ولا يلقاها إلا ذوحظ عظيم".