التفاوض من أجل الهيمنة
لم يعرف الغرب يوماً الصدق فيما يطرحه من اقتراحات بين الفينة والاخرى، ومساعيه لجعل التحولات التي يعرفها العالم لا يمكن التغلب عليها إلا من خلاله وجعلها قاعدة من القواعد الثابتة للسياسة الدولية.
ان المنجزات الحضارية تشكل بالاساس تراثاً جماعياً للبشر وهي مصدر الالهام والتقدم في ترابط العلاقات بين الشعوب والتفاعل بين الثقافات للتوصل الى قواسم مشتركة لمواجهة التهديدات التي يتعرض لها السلام العالمي وحق جميع الشعوب في تقرير مصيرها من خلال التعايش السلمي والتعاون والتفاهم المتبادل. تأسيساً على ذلك ترفض النظريات المشبوهة الداعية لتكريس الصراع كحقيقة والسير وراء مثل الافكار الهدامة لما لها من امتهان خطير لقيم العدالة والمساواة.
فقد طرح المفكران الاستراتيجيان الاميركيان؛ "صموئيل هنتغتون وفرانسيس فوكوياما" أفكاراً في هذا السياق وقدما العديد من الادلة لتأييد افكارهما، وجوهر الفكرة في ان الخلافات السياسية والاقتصادية بين الدول لن تكون على اساس كونها كيانات قومية بل ستصبح الاختلافات الثقافية / الحضارية هي المحرك الاساس للنزاعات بين البشر مستقبلاً.
وتنبأ "صموئيل" في مقال نشره عام 1993 بأن العوامل الثقافية تساعد على تشكيل تكتلات اقتصادية كبرى "مثلما في قارة آسيا" بناءً على انتمائها لحضارة مميزة بحد ذاتها بغض النظر عن تباين الهويات القوية.
ان صموئيل قد قرع الجرس بقوة ليوقظ زعماء الغرب ان الزلزال الذي حصل في ايران بات يغير المعادلات التي رسموها منذ عقود ولابد لاميركا من تحقيق تفوق في مجال الاسلحة الستراتيجية النووية ليكون لها حرية الحركة على المسرح الدولي والعودة الى دورها القديم – الجديد في قمع حركات التحرر الوطني في العالم اي دور الشرطي الامبريالي الذي فقدته منذ حرب فيتنام. وان اكثر ما يخافه الغرب التأثير الثقافي للجمهورية الاسلامية الايرانية على شعوب المنطقة لاسيما وقد تجاوزت ايران الحواجزالاثنية واللسانية، وهو ما تمت ملاحظته في لبنان وفلسطين واليمن والعراق، وحتى في شمال افريقيا. فبعد ان تكرست جراء الحروب العربية الاسرائيلية حالة الاستسلام لدى العرب، سعى الامام الخميني "ره" للتأكيد على ضرورة استمرار المواجهة ضد "اسرائيل" وحماتها بتوظيف سلاح النفط، فكتب مخاطباً الحكومات والشعوب الاسلامية في بيان اصدره عام 1973: "على حكومات الدول الاسلامية النفطية ان تستخدم النفط وغيره من الامكانات المتاحة لها كسلاح ضد اسرائيل والمستعمرين لتمتنع عن بيع النفط للدول التي تقدم الدعم لـ"اسرائيل"". وعاد الامام لشحذ الهمم في خطاب بتاريخ 1979/8/16: "ثمة امر يحيرني وهو ان الدول الاسلامية والشعوب المسلمة تشخص الداء جيداً وتعلم ان للاجانب دوراً كبيراً في اشاعة التفرقة بينهم كما انها تدرك ان نتيجة هذه التفرقة ليس غير ضعفهم وزوالهم....".
انها رؤية ثاقبة بان حبل الثقة قد انقطع مع الغرب وبالتحديد اميركا، وان هؤلاء المستعمرين اشبه بالوحوش المفترسة ينبغي الحذر منها دائماً ولكن ليس بالضرورة التشبه بها.
وهذا يتجسد في فتوى سماحة قائد الثورة بحرمة استخدام السلاح النووي، السلاح الذي اول ما استخدمته اميركا وتهدد به دوماً، فيما تحاول ان تحظر على الجمهورية الاسلامية الايرانية الاستخدام السلمي لبرنامجها النووي.
انها ازدواجية المعايير التي اشار اليها سماحة قائد الثورة آية الله الخامنئي اول امس لدى استقباله رؤساء السلطات الثلاث وحشد كبير من مسؤولي البلاد، قائلاً: "ان ازدواجية المعايير في الغرب تفضح حقيقة الحضارة الغربية والمثال على هذه المعايير المزدوجة هو الزعم بالتدفق الحر للمعلومات ... انها حقاً وصمة عار على الحضارة الغربية وانها تفضح ادعاءاتها...". واشار الى مزاعم بعض الدول الغربية واميركا بشأن التفاوض قائلاً: "ان اصرار بعض الحكومات المستبدة على المفاوضات ليس من اجل حل القضايا بل من اجل الهيمنة وفرض رغباتها... للوقاحة حدود كيف يمكن ان لا تلتزم "الترويكا الاوروبية" بتعهداتها وتقول للآخرين ان التزموا...".
وهذا ما اكده سفير ومندوب الجمهورية الاسلامية الايرانية الدائم لدى المنظمات الدولية في فيينا الاسبوع الماضي، بالقول: "ان سياسة الضغط لانتزاع التزامات نووية احادية من ايران ستأتي بنتائج عكسية....وان ايران قد نفذت جميع التزاماتها بموجب الاتفاق المبرم وتوقعت ان تتمتع بجميع المزايا المنصوص عليها في الاتفاق النووي، ومنذ البداية حاولت اميركا بسوء نية حرمان ايران من المكاسب الاقتصادية المحددة وفقاً للاتفاق النووي...".
وقد شهدت دول المنطقة التعامل الفج لاميركا مع حكوماتها وكيف تحاول فرض املاءاتها بالتهديد، ولعل انموذج ترامب الارعن خير مصداق، فهو حتى في لغة خطابه يستخدم اسوأ العبارات للتعبير عن العنجهية الاميركية، الا انه يفشل دائماً مع الجمهورية الاسلامية الايرانية محاولاً تغيير السبل ولكن من دون جدوى. فالارضية التي تقف عليها ايران تجمع الارث الحضاري والسماوي معاً.