القبض على مشارب المياه
ان اسطورة من النهر الى النهر ما جاءت عن فراغ، لاسيما حين نقرأ لمؤسس المنظمة اليهودية العالمية "هرتزل" مساعيه لإنشاء مستوطنة في سيناء إلا ان شحة المياه حالت دون ذلك، فقال: "إن المؤسسين الحقيقيين للارض الجديدة – القديمة، هم مهندسو المياه فعليهم يعتمد كل شيء من تجفيف المستنقعات الى ري المساحات الجديدة وانشاء محطات توليد الطاقة الكهرومائية". فكانت الخطوة الرئيسية لإرساء حجر الاساس للكيان الصهيوني في بداية هذا القرن الماضي الاستيلاء على مصادرة المياه، فلم يكن الهم الصهيوني يقتصر على استيطان فلسطين فحسب بل تعدى ذلك بكثير الى استهداف البلاد الواقعة جنوبي مدينتي بيروت ودمشق للسيطرة على المياه ومصادرها في المنطقة واهمها مياه الليطاني، وتشمل جميع منابع نهر الاردن واليرموك بالاضافة الى السيطرة على مرتفعات الاردن الغربية. فالمواجهات بين "اسرائيل" والدول العربية في منطقة غور الاردن ومرتفعات الجولان من تشرين الثاني / نوفمبر 1964 الى ايار / مايو 1967 هي حول السيطرة على مصادر المياه في حوض تصريف نهر الاردن.
فزعماء الحركة الصهيونية كانوا يطمحون منذ اكثر من مائة عام للاستحواذ على مياه نهر الاردن وما يحيط بفلسطين. فالحكام الاسرائيليون مهما اختلفت اتجاهاتهم السياسية مازالوا يمضون في تنفيذ المبادئ الصهيونية في السيطرة على الاراضي المصاحبة للسيطرة على المياه، ولذا فان المحاولات لانشاء وطن قومي لليهود تقوم على المزج بين الخريطة المائية والخريطة الامنية. فما زالت تسيطر على هضبة الجولان لا لشيء إلا لانها تضم منابع نهر الاردن الحيوي بالنسبة للكيان الصهيوني.
هذه المقدمة توضح سبب توغل قوات الاحتلال الاسرائيلي داخل الاراضي السورية بالتزامن مع استهداف عدة مواقع بالطائرات، مساء الاربعاء الماضي. فقد وصلت القوات براً عبر عشرات الاليات العسكرية الى بلدة البكار في ريف درعا الغربي ودخلت ثكنة عسكرية تابعة للجيش السوري السابق تعرف بثكنة المجاحيد حيث تم تفجير الابنية الموجودة فيها.
وفي نفس الوقت توغلت مدرعات في بلدة جبا في الريف الاوسط لمحافظة القنيطرة كما وصلت الى بلدة عين البيضة شمال المحافظة، ووصلت حوض اليرموك غربي درعا وبلدات كويا وجملة ومعرية عابدين قبل ان تنسحب منها، ومع ذلك هنالك نقاط ثم التموضع بها عبر نقاط عسكرية. فليس للكيان خطة للتقدم البري، اذ وفق تصريحات نتنياهو، ان القصف الجوي الذي شهدته المنطقة بالتزامن مع زيارة الجولاني الى عمّان، كنوع من الضغط للقبول بتهجير اهالي غزة. وبالمحصلة كان لهذه التوغلات تأثيرات سلبية كبيرة على المنطقة ومن ابرزها السيطرة على مناطق زراعية في حوض اليرموك غربي درعا.
ان هذا المخطط نفسه ارادت "اسرائيل" تطبيقه في لبنان منذ الاجتياح الاول في مارس / آذار 1978 لتحتل مساحات من جنوب لبنان حتى نهر الليطاني بذريعة ازالة قواعد منظمة التحرير الفلسطينية. فيما اجتاحت عام 1982 الجنوب ووصلت الى بيروت لولا فعل ابطال المقاومة التي بدأت بتأثيرها على الساحة اللبنانية رغم قلة العتاد والناصر. ولا ننسى احتلال الكيان الصهيوني عام 1967 لمزارع شبعا "25 كم مربع" وتلال كفرشوبا لما لها من أهمية جيواستراتيجية تشرف على هضبة الجولان المحتلة ومنطقة حوران ودمشق. وبشكل عام تمتاز لبنان بثروتها المائية الوفيرة، ما يسيل له لعاب الكيان الصهيوني منذ البداية. ولكن المقاومة الاسلامية اجهضت محاولات الكيان، واعادت تثبيت معادلة الردع على قاعدة "ان اي اعتداء يتعرض له محور المقاومة سيلقى الرد المناسب". الا ان مزارع شبعا "وهي منطقة لبنانية محتلة" تقع خارج نطاق قرار 1701، الذي ينبغي ان تلتزم به "اسرائيل" في الانسحاب الكامل ولكنها تماطل في السيطرة على مراكز حساسة في القطاع الشرقي؛ تلة الحمامص، وتلة العويصة، وتلة فشكول، والقطاع الغربي؛ تلة الليونة، وتلة العزية، وجبل بلاط. اذن الاولوية لتحرير الجنوب بشكل كامل هي ستراتيجية حزب الله القائمة على مواصلة الصراع مع الاحتلال الصهيوني، فالفكرة الصهيونية قائمة على التوسع ولبنان واحدة من اقرب النقاط التي خصتها العقلية الصهيونية بمخططاتها الاحتلالية، فقواتها حين دخلت لبنان عام 1982 كانت عازمة على البقاء على الاقل على حدود نهر الليطاني بعد ان حاولت تثبيت حكماً مارونياً يأتمر بأمرها، ووضعت السلطة عام 1983 امتيازات كبيرة لـ"اسرائيل" في اتفاقية 17 آيار. فقد فعلت "اسرائيل" كل ما تستطيع فعله من اجل ان تؤمن لقواتها بقاءاً دائماً على جزء من الاراضي اللبنانية التي اضطرت فيما بعد الى الانسحاب منها في ظل ضربات المقاومة الاسلامية التي كانت تتصاعد وتتسع بسرعة افقدت القيادة الصهيونية توازنها، فمنيت بأندحار مذل، حتى قال وزير الدفاع الصهيوني حينها "اسحاق رابين" في آذار 1985 "سنواجه بالاضافة للارهاب الفلسطيني الارهاب الشيعي الذي ليس هناك ما يؤكد بقاءه ضمن الحدود اللبنانية، ان "اسرائيل" تواجه خطراً جديداً يتمثل بالارهاب الشيعي في جنوب لبنان والذي قد يصبح اكثر خطراً من العمليات الارهابية التي نفذتها منظمة التحرير في المنطقة نفسها".