سماحـة السيـد.. التاريـخ يعيـد نفسـه
أحمد الشرقاوي
سيقف المحللون طويلا عند جملة قالها سماحة السيد في إطلالته بمناسبة الذكرى السنوية للانتصار في 25 أيار/ماي 2000 من مدينة النبطية، ربطا بالوضع الخطير الذي تمر به المنطقة، سبق وأن وصفه في أكثر من مناسبة بـ”الخطر الوجودي”، ومفادها: إن "التاريخ يعيد نفسه بعناوين جديدة”.. وبالتالي، فكيف يمكن فهم أبعاد معانيها الكبيرة ودلالاتها العميقة من دون العودة إلى التاريخ لتفكيك معادلة "الدين و السياسة”؟..
لعلي من الذين يؤمنون بأن معالجة معضلة القصور في الفهم الديني، لا تكمن في إعادة فتح باب الاجتهاد الذي أغلق في القرن 450 هجري، استنادا إلى مراجعة التراث الفقهي الذي يشكل ثوابت ثقافتنا الكارثية اليوم، لأن الحل لا يكمن في تقديس ثقافة القبور واستدعاء أفكار الماضي لزرعها في الحاضر كي تنتج نفس تجربة السلف الذي لم يكن كله صالحا..
بل الحل يكمن أولا، في معالجة سوء فهمنا للتاريخ بسبب إصرارنا على تقديسه بدل مراجعته، الأمر الذي جعل أحلامنا دائما ورائنا، بحيث كلما واجهتنا معضلة أو نكسة، استنجدنا بالماضي نبحث بين غبار رفوفه عن حلول في تجارب خاصة عاشتها أمم قضت بما لها وما عليها، هذا بالرغم من أن الله تعالى يقول لنا بصريح العبارة في محكم كتابه: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) البقرة: 134 وتكررت حرفيا أيضا في الآية 141 من نفس السورة..
والحل يكمن ثانيا، في فهم الدين من منطلق قراءة جديدة للقرآن مغايرة تماما لفهم السلف، بحيث يتم استنطاق النص على ضوء مستجدات الواقع، مع وجوب التفريق بين الثوابت والمتغيرات على ضوء المحكم والمتشابه، وخلع رداء القداسة عن كل ما لا يتوافق مع الخطاب الإلهي وسننه في الخلق، لنؤسس لإدراكنا الديني ووعينا السياسي بأفكار جديدة تنسجم مع شروط المكان وظروف الزمان الذي نعيش فيه تجربتنا التاريخية الخاصة، ونؤمن يقينا أنها تختلف من عصر إلى عصر، ومن أمة إلى أخرى، في إطار سنة الله التي يعتبر التطور هو الثابت الأساس فيها..
لأنه إذا حاولنا في كل مرة أن نعيش تجاربنا كنسخة طبق الأصل من تجارب الأمم التي عاشت قبلنا، فلا يمكن أن نتغير أو نتقدم نحو الأحسن، بل أقصى ما يمكن أن نصل إليه، هو إعادة إنتاج كوارث الماضي بمبررات جديدة وأدوات مستجدة لا تختلف مع القديمة إلا من حيث الشكل، في حين أن الجوهر يستمر على ما هو عليه إلى أن يفعل الله أمرا كان مقدورا..
هذا الكلام، يساعدنا إلى حد بعيد في فهم ما قصده سماحة السيد بعبارة "التاريخ يعيد نفسه”، من وجهة نظري المتواضعة، من دون أن يغوص سماحته في الشرح والاستدلال، والذي من شأنه صب المزيد من الزيت على النار، في مرحلة حساسة تقتضي الدعوة إلى الإجماع والتوافق لمواجهة المشروع الجهنمي الذي يتربص بأمتنا اليوم، والذي قد تكون نتائجه – لا سمح الله – نكبة كبرى أشد وطأة وقساوة من سابقاتها، وما نكبة فلسطين إلا محطة من محطات الفشل العربي المزمن في الخروج من هذا الواقع السيئ المظلم الذي نعيشه كأمة دون أمل في رحمة الله إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا على أساس فهم جديد للدين والتاريخ معا..
والنكبة التي نتحدث عنها اليوم، ويتجنب سماحة السيد الإشارة إليها باسمها الحقيقي، مفضلا توصيفها بـ”المشروع التكفيري”، هي "الحرب الدينية الكبرى” التي يعمل أعداء أمتنا وعملائهم الأوغاد في المنطقة على إشعال نارها بين "السنة” و "الشيعة” بشكل غير مسبوق، كي لا تقوم لنا قيامة، خوفا من وحدة "أمة محمد” ونهضتها، وما يعني ذلك من انقلاب للمعادلات وتغيير لخرائط القوة والنفوذ في المنطقة والعالم.
هذا ما يخيف الأعداء ويعملون على إفشاله بكل الوسائل والسبل، مستغلين في ذلك جهلنا وغبائنا من جهة، وتواطؤ الحكام الخونة من جهة أخرى، في زمن أصبحت الخيانة وجهة نظر، وأصبح التحالف مع الأعداء سياسة رشيدة، والدفاع عن الفاسدين والمجرمين المخربين عقلانية ومصلحة استراتيجية، والخوض في مسألة الطائفية والمذهبية يشبه المشي فوق رمال حارقة متحركة قد تبتلع من يقتحمها..
وبهذا المعنى، فمسؤولية ما يحدث لنا اليوم من مآسي لا تتحملها أمريكا، بل نحن، بسبب اختلافنا وضعفنا وهشاشتنا وافتقارنا لإرادة التغيير خوفا من المجهول الذي لا نعرفه لأننا نعيش بلا رؤية، الأمر الذي ينعكس سلبا على عزيمتنا في المواجهة والحسم للدفاع عن أنفسنا بوحدتنا التي تشكل منبع قوتنا كما أمرنا ربنا وأوصانا نبينا..
لأنه عندما تضع الولايات المتحدة في عهد ‘رونالد ريغان’ بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، استراتيجية بعيدة المدى تعتبر "الإسلام” خطرا على النظام العالمي، انطلاقا من قناعة تقول، بأن القوة الوحيدة في هذا العالم التي يمكنها الوقوف في وجه هيمنتها الاستعمارية على مقدرات الشعوب وخيرات أوطانها، وتقديم البديل الحضاري لنظامها النيو- ليبرالي المتوحش لصالح الشعوب المستضعفة.. نفهم بوضوح لماذا اعتبرت امبراطورية روما الجديدة "الإسلام” عدوا خطيرا يهدد القيم الحضارية "الإنسانية”، وبالتالي، لا حل، وفق هذه الرؤية الخبيثة، إلا بمحاربة الإسلام السمح الجميل بكل الوسائل والسبل لتشويهه وتقديمه كعقيدة ظلامية متوحشة، يؤمن معتنقيها بالعنف في أقصى تجلياته، لإخافة العالم منه وتنفير الناس من اعتناقه بسبب الخواء الروحي الذي يشعر به الإنسان في الغرب..
وعندما يعلن مؤتمر "هرتسيليا” للإستراتيجية الأمنية والسياسية والاقتصادية المنعقد سنة 2007 بعد هزيمة "إسرائيل” المذلة على يد المقاومة الإسلامية في لبنان سنة 2006، أن لا إمكانية لتأبيد الهيمنة الأمريكية وضمان أمن واستقرار "إسرائيل” في المنطقة، وتمكينها من مقومات النهوض على حساب خيرات ومقدرات الشعوب، إلا بمواصلة ذبح الفلسطينيين، وتمزيق العرب، وشيطنة حركات المقاومة الإسلامية و وصمها بـ”الإرهاب”، ومنع أي مساعي للوحدة بين المسلمين، وأن الحل يكمن في إشعال نار الفتنة الطائفية والمذهبية بين مكونات الأمة.. نفهم ما هي نقطة الضعف التي اقترحها الصهاينة على أمريكا كمدخل لتنفيذ إستراتيجيتها..
وعندما يقول ثعلب السياسة الأمريكية ‘هينري كيسنجر’، أن الحل الوحيد للحؤول دون صحوة هذا العملاق المسمى "أمة محمد”، يكمن في العمل على منع الوحدة بين المسلمين من مدخل إشعال الفتنة الطائفية والمذهبية لخلق ظروف وشروط حروب دينية طاحنة تحرق اليابس والأخضر وتدوم لـ 30 سنة قادمة.. نفهم أن ‘كيسنجر’ ربط بين الرؤية الأمريكية البعيدة المدى الذي وضعت في عهد ‘ريغان’، وتوصية مؤتمر "هرتسيليا” لعام 2007، مستوحيا فكرة الحروب الدينية من الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي، والحروب الدينية التي عرفتها أوروبا في القرن السابع عشر بين الكاتوليك والبروتستانت، وأدت إلى علمنة الدولة الوطنية والمجتمع في الغرب، وبذلك، نراه يجمع بين عوامل الدين والتاريخ لضمان نجاح المشروع الأمريكي الخبيث الذي أصبح يعرف اليوم بـ”المشروع التكفيري”..
ونفهم أيضا لماذا اعتمدت الإدارة الأمريكية على منظومة تنفيذية واسعة، سياسية ودينية وإعلامية وأمنية وعسكرية ومالية، وحددت لكل مستوى دوره و وظيفته ومجال تدخله وفق خطة شاملة ومكتملة لضمان نجاح مشروع الفتنة، واستحالة مواجهته من قبل محور المقاومة لتعدد الأعداء المتدخلين، كـ”إسرائيل” و "السعودية”، وتركيا وقطر والأردن والمخابرات الأطلسية الأمريكية والبريطانية والفرنسية، بالإضافة إلى "القاعدة” ومتفرعاتها والمرتزقة المأجورين من كل أصقاع الأرض..
وبهذا التنظيم الضخم والمعقد، يصعب إسقاط المشروع بمواجهة التكفيريين فقط، لأنه بالإمكان استنساخهم كالفطر تحت عناوين مضللة من قبيل "المعارضة” و "الثوار” وما إلى ذلك، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى استنزاف محور المقاومة، ما يتوجب التفكير في استراتيجية جديدة شاملة وجريئة لإسقاط أدوات المشروع الفاعلة بدل التركيز فقط على مواجهة التكفيريين..
لأنه عندما يقول وزير الحرب الأميركي السابق ‘ليون بانيتا’، أن القضاء على داعش سيستغرق 30 عاماً.. نفهم أنه ينفذ خطة استنزاف طويلة الأمد، قد أعدت بكل تفاصيلها أخذا بالاعتبار مختلف السيناريوهات الممكنة والمحتملة، وأن الإدارة ألأمريكية بدأت في تطبيقها وفق الإطار الزمني الذي حدد لها..
لكن ماذا عن التفاصيل؟.. قراءة الأحداث وتطوراتها، وخصوصا منذ هزيمة "إسرائيل” سنة 2006، وتخصيص أمريكا لما يناهز 500 مليون دولار لتشويه سمعة حزب الله "الشيعي”، والاستثمار في الإسلام السياسي الإخونجي بمناسبة الربيع العربي، والتركيز على ضرب محور المقاومة وكسر حلقته الذهبية المتمثلة في سورية في أفق تفجير إيران من الداخل للقضاء على إديولوجيتها الثورية، ووضع مشيخات الخليج ثقلهم المالي والإديولوجي والإعلامي لتشويه صورة محور المقاومة وتكفير "الشيعة” ونعثهم بالمجوس واعتبارهم العدو بدل "إسرائيل”، وخض السعودية عدوانا غاشما على اليمن تحت عنوان مواجهة التمدد الإيراني، وهناك معلومات إيرانية مؤكدة تتحدث عن سعي "السعودية” لفتح جبهة جديدة لا يعرف بعد أين سيكون مكانها.. نفهم أن المخطط الذي تعتمده إدارة أوباما في ما أصبح يعرف بالحرب الناعمة، أو الحرب بالوكالة، أو الفوضى الخلاقة، أو إدارة النزاعات من الخلف، أو حروب الجيل الرابع، أو سميها ما شأت.. يقوم على أساس استدعاء الفتنة الكبرى من ثلاجة التاريخ..
لأنه إذا كان رفع السيدة عائشة (ر) لقميص الرسول صلى الله عليه وسلم للتحريض على الخليفة الثالث عثمان بن عفان (ر) بسبب سوء إدارته للمال العام، قائلة "أيها الناس، إن ‘عثمان’ غير سنة ‘محمد’ قبل أن يبلى قميصه”، الأمر الذي أدى إلى مقتله من قبل الخوارج، ثم رفعت بعد ذلك قميص ‘عثمان’ لتطالب بثأره، فركب ‘معاوية بن أبي سفيان’ الموجة وشق صف المسلمين، مؤسسا لأول مرة ما أصبح يعرف بـ”أهل السنة والجماعة” في مواجهة الإمام علي بن أبي طالب (ع) وأتباعه في مسألة إمامة المؤمنين وما ترتب عن ذلك من فتنة كبرى أدت لإراقة دماء المسلمين، ولا تزال تداعياتها تعيشها الأمة إلى اليوم، وتحول دون وحدتها لصعوبة تجاوزها بسبب الخلط في المفاهيم بين ثوابت الدين ومتغيرات السياسة وظروف التاريخ.. فإن ما يحدث اليوم هو استنساخ من قبل أمريكا وأدواتها، وخصوصا "السعودية” لنفس هذا السيناريو الخبيث لإشعال حرب سنية – شيعية تقوض أي محاولة لوحدة الأمة واجتماعها حول حبل الله المتين الذي هو القرآن.
وحيث كان من الضروري ليكتمل المشهد، خلق جيش خوارج العصر بوجهه البشع الجديد الذي سيتكفل بتخريب الإسلام وإشعال الفتنة المذهبية البغيضة، فقد تكفلت السعودية بالجانب المالي بمعية مشيخات الخليج، بالإضافة إلى الجانب الإديولوجي والتحريض الطائفي والمذهبي الذي تولاه حاخاماتها الجهلة، وإعلامها العاهر، في حين تكفلت أمريكا والمخابرات الأطلسية بتدريب التكفيريين الذين استنسختهم من "القاعدة” في تركيا والأردن والسعودية وقطر، فجاء المولود أكثر همجية، لأنه يحمل فكر القاعدة الوهابي والإخونجي المتطرف، ومؤهلات ‘بلاك ووتر’ القتالية التي عرف بها مرتزقة حروب العصابات، والتي من سيماتها انعدام الرحمة وقمة الوحشية، بهدف زرع الرعب في القلوب والصدمة في النفوس والتشويش على العقول.. وهذا هو السبيل الأنجع، وفق اعتقادهم، لهزيمة أصحاب عقيدة المقاومة، لأنه لا يفل الحديد إلا الحديد كما يتصورون.
هذه هي الحكاية بالمختصر المفيد، فما أشبه اليوم بالأمس، وبالتالي، فإذا كانت إيران تدافع عن "إسلام” القرآن وتسعى للتقريب بين المذاهب، ولا تفرض على أحد التقيد بمذهب آل البيت إلا إذا كان ذلك عن قناعة واقتناع، فإن "السعودية” التي ألغت المذاهب كلها واختزلت "السنة” في عقيدتها التكفيرية المتطرفة، لا تمثل "السنة النبوية” بحال من الأحوال، بل تمثل نسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن كل المذاهب والمدارس والتيارات الفكرية التي عرفها التاريخ الإسلامي، إنه دين لا يشبه دين الله ولا ما بعث به محمد من مكارم الأخلاق، ولا تشبه الجماعات التكفيرية اليوم خوارج فجر الإسلام أيضا إلا في ما له علاقة بالظاهر، وتستمد من العقيدة التلمودية أهم مبادئها التي تشكل اليوم ما أصبح يعرف بـ”الوهابية” التكفيرية الإلغائية الظلامية..
أما عن استراتيجية محور المقاومة التي تحدثنا عن بعض من ملامحها في مقالة سابقة، فإن سماحة السيد أوضح اليوم أن مواجهة "المشروع التكفيري” البغيض، تتطلب تفعيل معادلة "الجيش والشعب والمقاومة” على نطاق كل ساحات محور المقاومة، من خلال إستراتيجية ربط كل الجبهات بدل تجزئتها كما كان الأمر في السابق.