قراءة في بيان البيت الأبيض و”مجلس التعاون” بعد كامب ديفيد
مصطفى اللباد
انتهت أعمال قمة كامب ديفيد التي جمعت الرئيس الأميركي باراك أوباما مع رؤساء وفود دول "مجلس التعاون” قبل أيام قليلة، للتباحث في العلاقات الأميركية الخليجية والقضايا الإقليمية المختلفة. جاء اللقاء على خلفية التقارب الأميركي ـ الإيراني ومخاوف الدول الخليجية العربية من تداعياته على موازين القوى الإقليمية البازغة، وسط اهتمام إعلامي أميركي واضح. وإذ خرج البيت الأبيض الأميركي ببيان مشترك مع دول "مجلس التعاون” يعدد فيه القضايا التي تناولتها القمة ونقاط الاتفاق بين المجتمعين، لذلك يتوجب تحــليل مضمونه لإلقاء الضوء على موقف الأطراف المشاركة فيه حيال القضايا الإقلــيمية المختــلفة، وبالتالي كشـــف اللثام عن الرؤية الأميركية الجــديدة لتوازنات المنطــقة.
العلاقات الأميركية ـ الخليجية
ركز البيان المشترك على علاقات الشراكة والتحالف التي تجمع الطرفين الخليجي والأميركي، وأبرز بوضوح التزام أميركا القاطع بحماية أمن الدول العربية الخليجية من العدوان العسكري والإرهاب؛ ومشدداً على وحدة وسلامة أراضيها. وفي رسالة قوية إلى إيران، اتفقت الأطراف على قيام نظام أمن إقليمي واسع للدفاع ضد الصواريخ الباليستية، بحيث يشمل نظاماً للإنذار المبكر وتدريبات مشتركة ضد التهديدات غير التقليدية مثل الإرهاب والهجوم الإلكتروني، وزيادة التعاون في مجال الأمن البحري. في هذا السياق، يتضمن البيان المشترك: "ستستخدم أميركا كل وسائل القوة لحماية مصالحنا في منطقة الخليج الفارسي وردع ومواجهة العدوان الخارجي ضد شركائنا وحلفائنا، كما فعلنا في حرب الخليج الفارسي، وبشكل لا لبس فيه”. ويقول البيان في موضع آخر بوضوح أيضاً: "وفي حال قيام عدوان أو التهديد بعدوان، ستكون أميركا مستعدة مع شركائها في دول "مجلس التعاون” على وجه السرعة لتحديد الفعل المناسب باستخدام كل الوسائل المتاحة بما فيها القوة العسكرية للدفاع عن شركائنا في دول المجلس”. ويعود البيان للتأكيد بوضوح أكبر على: "ستعمل أميركا ودول "مجلس التعاون” بكل الوسائل ضد نشاطات إيران لزعزعة الاستقرار في المنطقة، وقد شددوا على حاجة إيران إلى الانخراط في المنطقة طبقا لمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام وحدة وسلامة الأراضي بالاتساق مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة”. بمعنى أن دول الخليج الفارسي حصلت على تعهدات لا لبس فيها بحماية أمنها القومي من التدخلات الإيرانية، ولكنها لم تحصل بأي شكل من الأشكال على تعهدات بتقليص دور إيران الإقليمي. وفي مقابل التعهدات الأميركية، فقد تضمن البيان تعهدات من دول الخليج الفارسي مقابل أميركا كالتالي: "قرر القادة زيادة تعاونهم في مجال مكافحة الإرهاب وخصوصا تنظيم "الدولة” و "القاعدة” لردع ومنع الهجمات الإرهابية، مع إيلاء أهمية خاصة لحماية البنية التحتية الحساسة وتوسيع الأمن الحدودي والبحري ومحاربة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ودعم المقاتلين الأجانب ومواجهة التطرف العنفي بكل أشكاله”.
القضايا الإقليمية
وضع البيان المشترك حدوداً أميركية واضحة لتوازن القوى الإقليمي الراهن وقطع الطريق على محاولات تعديله جذرياً، حيث أورد البيان فقرة لها مغزاها العميق: "قرر المجتمعون اعتماد مبادئ مشتركة يأتي من ضمنها الاعتراف المتبادل بأنه لا حل عسكرياً للحروب الأهلية في المنطقة، التي يمكن حلها فقط بالوسائل السياسية والسلمية واحترام سيادة كل الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”. بمعنى أن التعامل مع القضايا الإقليمية يتم بالمفرق وليس كرزمة شاملة، ما يعني تثبيت توازن القوى الإقليمي المختل لصالح إيران، مع السعي لتعديله نسبياً بوسائل غير عسكرية. ويظهر ذلك بوضوح في ما يخص العراق حيث: "أكد القادة التزامهم بمساعدة الحكومة العراقية والتحالف الدولي في حربهم ضد تنظيم "الدولة”. وأكدوا على ضرورة تعزيز العلاقات بين دول "المجلس” والحكومة العراقية استنادا إلى مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سيادة الدولة. وشجعوا الحكومة العراقية على الوصول إلى مصالحة وطنية حقيقية عبر حل مظالم كل مكونات المجتمع العراقي من طريق الاصلاحات التي تمت الموافقة عليها الصيف الماضي، والتأكد من أن كل الجماعات المسلحة تعمل تحت الرقابة المشددة للدولة العراقية”. بمعنى أن المجتمعين اعترفوا بالأمر القائم في العراق والمائل لمصلحة إيران، مع محاولة تجميله بمشاركة العرب السنة في مؤسسات الدولة في إطار "الستاتيكو” القائم. انتهت سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق المفضلة أميركياً بعد حرب جورج دبليو بوش على العراق واحتلاله العام 2003، فكرست قمة كامب ديفيد الواقع الجيو ـ سياسي الجديد مع تحسين مواقع الطرف الخليجي نسبياً، وليس عزل ايران أو جر واشنطن للمواجهة معها في العراق.
في المقابل، حصلت السعودية في اليمن على جائزتها كالتالي: "أكد المجتمعون ضرورة بذل الجهود المشتركة لمواجهة تنظيم "القاعدة في الجزيرة العربية” وضرورة التحول من العمليات العسكرية الى العملية السياسية عبر مؤتمر الرياض ورعاية الدول الخليجية العربية والأمم المتحدة لتسهيل التفاوض، على قاعدة مبادرة "مجلس التعاون الخليجي” ونتائج المؤتمر الوطني العام وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وقد رحبوا ببداية المهلة الانسانية لمدة خمسة أيام لتسهيل وصول المعونات الانسانية لكل من هم في حاجة إليها، وأعربوا عن أملهم بأن تتطور الأمور في اتجاه وقف إطلاق نار طويل وشامل، وعن ترحيبهم بالمنحة الكريمة ومقدارها 274 مليون دولار التي قدمتها المملكة العربية السعودية للأمم المتحدة للقيام بمهامها الإنسانية في اليمن. وتؤكد الولايات المتحدة الأميركية من جديد التزامها ـ بالشراكة مع دول "مجلس التعاون” والأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي ـ بمنع إعــادة تسليح القوات الحوثية وحلفائها وفقاً لقرار مجلس الأمن الرقم 2216”. هنا تظهر إدارة أوباما نيتها الواضحة في دعم السعودية، التي تعتبر اليمن حديقتها الخلفية ومصدراً للأخطار على أمنها القومي.
في الملف السوري، أعطى أوباما الشركاء الخليجيين أكثر من المتوقع بخصوص الأسد ومستقبله، لكنه رسم بدوره حدوداً سياسية للحل وآفاقه: "التزم القادة بالعمل على التوصل إلى حل سياسي في سوريا ينهي الحرب ويؤسس لحكومة شاملة تحمي كل الأقليات الإثنية والطائفية وتبقي على مؤسسات الدولة. وأكدوا من جديد أن الأسد فقد كل المشروعية ولا دور له في مستقبل سوريا. ودعموا بقوة الجهود المتزايدة لتقليص وتدمير تنظيم "الدولة” وحذروا من تأثير المجموعات المتطرفة مثل "النصرة”، والتي تشكل خطراً على الشعب السوري والمنطقة والمجتمع الدولي”.
وعن لبنان جاءت لهجة البيان المشترك روتينية وهادئة ولم تظهر انحيازاً إلى أحد المعسكرين، فيما يعني اعترافاً بموازين القوى القائمة فيه: "أعرب القادة عن مخاوفهم من تأجيل الانتخابات الرئاسية في لبنان، وناشدوا كل الأطراف تعزيز مؤسسات الدولة اللبنانية، وشددوا على أهمية البرلمان اللبناني في التحرك قدما لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بالتوافق مع الدستور”. ولم تكتف الفقرة الخاصة بلبنان بذلك فقط، إذ أورد البيان أيضاً: "أكد القادة على تصميمهم على دعم الحكومة اللبنانية في مواجهتها لتنظيمي "الدولة” و”النصرة” اللذين يهددان أمن لبنان واستقراره”.
باختصار، يرسم البيان المشترك حدود الأدوار الإقليمية للأطراف، بحيث يعين منطقة نفوذ إيران الإقليمي في العراق ويعترف ضمناً بمشاركتها في حل سياسي في سوريا وبنفوذ تحالفاتها في لبنان، ويفعل الشيء نفسه للسعودية في اليمن، تاركاً مستقبل الحل السياسي في سوريا لتعاون خليجي ـ تركي وفق الضوابط الأميركية المعلومة.
الخلاصة
عكس لقاء كامب ديفيد التغير الواضح في موازين القوى في الشرق الاوسط بعد تحسن العلاقات الأميركية ـ الإيرانية، فعين البيان المشترك حدود وقسمات التعاون الأميركي ـ الخليجي. ويظهر بوضوح من البيان المشترك للقمة أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يريد تطوير علاقات بلاده مع الطرفين العربي والإيراني في آنٍ معاً، ما يظهر اختلافاً واقعياً عن السياسة الأميركية المعتمدة شرق أوسطياً منذ أكثر من ثلاثة عقود. بمعنى أن أوباما أعطى الدول الخليجية التطمينات اللازمة لحمايتها في مواجهة الأخطار التي قد تأتي من إيران وبخاصة العسكرية منها، ولكنه وفي الوقت نفسه ـ طبقاً للمسكوت عنه في نص البيان المشترك ـ قد أفسح المجال لصعود الأدوار الإيرانية في المنطقة وفق ضوابط، في انقلاب واضح على السياسات الأميركية المعتمدة سابقاً. في المقابل، يظهر بوضوح أن أوباما يحاول تقوية الطرف العربي نسبياً في معادلات المنطقة بدعم واضح في اليمن ونسبي في سوريا، بالتوازي مع تدعيم علاقات واشنطن وأنقره لضمان لجم الطموحات الإيرانية في المنطقة وفقاً للـ "ستاتيكو” القائم. باختصار، ستتدخل أميركا في المنطقة عسكرياً فقط في حال تهديد منابع النفط وطرقه البحرية ولمواجهة الإرهابيين. أما مهمة ضبط الصراعات المحلية فستسند إلى الأطراف الإقليمية لتتعامل معها وفقاً للضوابط الأميركية المعلومة، والإطار المرسوم لتوازنات المنطقة!