kayhan.ir

رمز الخبر: 19197
تأريخ النشر : 2015May12 - 21:12

تيوس الجزيرة.. وداعا للأمن والاستقرار

د. عمر ظاهر

"وعلى الباغي تدور الدوائر” مقولة سمعناها كثيرا، ولم يتضح معناها لنا تماما إلا اليوم إذ نرى النار وقد امتدت إلى زرائب تيوس الجزيرة العربية. مع الأسف، فعندما يشعل أحدهم النار في بيتك، ويقتّل أهل البيت، ولا يترك لك فرصة لإطفاء النار، فإن الأمل الوحيد الذي يبقى لك هو أن تنتقل النار إلى بيته، وفي هذه الحالة زريبته، وها هو الأمل قد تحقق، والفرصة قد جاءت لنتمكن من إطفاء النار في بيتنا. وصل الحريق إلى قلوبنا ولكنه لعزاء كبير لنا أن نراه يبدأ بالتهام اليد الآثمة التي أشعلته، مملكة التيوس في جزيرة العرب.

أربعة عقود من الإفساد في الأرض، بدأ عام 1980 بإغواء صدام حسين بأنهم يبايعونه نعلا على رؤوسهم، ثم غدروا بالشعب والجيش اللذين حمياهم. احترق العراق وجيران العراق، وبقوا هم في أمن وسلام. ثم افتعلوا حرائق أخرى، وها هي بلدان العرب من ليبيا إلى سورية وإلى اليمن تحترق بفعل خبثهم ولؤمهم، وجهلهم، وجشعهم، وتياستهم. سبحان الله الذي يضرب للناس الأمثال وهم في غفلة يعمهون. ها هو يرينا من آياته أن النفط والمال عندما ينعم بهما على التيوس فلن يتحولا إلى خير، ورفاه، وعلم، وأمن لهم ولمن حولهم، بل يتحولان إلى قرون من ذهب على رؤوسهم. هل جعل النفط والمال من آل سعود وغيرهم إلا تيوسا لها قرون من ذهب؟

ظنوا أنهم باقون في حرز حريز ذلك لأنهم يمسكون بتلابيب الأمور في زرائبهم بيد مخابراتية من حديد. لا تلوموا التيس لأنه يبقى تيسا حتى لو كانت قرونه من ذهب. هؤلاء لم يتعلموا شيئا من العالم من حولهم، لم يتعلموا من شاه إيران الذي كان صاحب أقوى وأشرس جهاز أمني في المنطقة (السافاك)، وكان صاحب خامس أقوى جيش في العالم، ولكن لم يعصمه من الماء شيء حين صارت الأرض تمور تحت قدميه بثورة شعب غاضب، ولم ينفعه حتى أسياده الذين تفانى في خدمتهم، ومات مشردا، ذليلا، لا يؤويه أحد. ولم يتعلموا من عدوهم السوفيتي الذي كان صاحب جهاز مخابرات جبار (الكي جي بي)، وصاحب الجيش الأحمر الذي انتصر على النازية نفسها في الحرب العالمية الثانية، بل وكانت له ترسانة من الأسلحة النووية وغيرها، ولكنها جميعا لم تحل دون انهياره، وتمزقه، بعد أن انزلقت أقدامه إلى مستنقعات أفغانستان. ولم يتعلموا حتى من سيدهم وحامي البوابة الشرقية الذي وصلت قبضة مخابراته حتى شوارع لندن، وكان له جيش أراد أن يصل به إلى طهران ليواصل زحفه من هناك (شرقا) نحو القدس. البشر يتعلمون من غيرهم، ومن التاريخ، أما التيوس فيتبعون الطريق التي تعودوا على السير فيها حتى لو صارت تؤدي إلى الجحيم. سنراهم وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، لا تؤويهم حتى أمريكا التي تمتلئ بنوكها بملياراتهم. سيموتون حسرات على ما أودعوه في البنوك ولم يعد لهم.

أفسدوا في الأرض ليس لشيء إلا حبا في الإفساد، وحسبوا أن المخابرات ستحميهم دائما في الداخل، وأن المال سيشتري لهم الأمن في الخارج. ولكن هاهم، وقد انزلقت أقدامهم إلى أفغانستان. نعم اليمن هو أفغانستان مملكة التيوس السعودية. لن يخرجوا من هنا إلا وقد تهشمت مملكة الفساد والجهل والتخلف، وتمزقت شر ممزق.

قد يحسب بعض الناس أن السعودية أصبحت دولة امبريالية وأن العدوان على شعب اليمن هو استعراض للقوة، واستهلال لعصر الامبريالية السعودية التي ستغزو، وتحتل، وتنصّب الحكام هنا وهناك فيقدمون لها فروض الطاعة والولاء، وقد يتخيل بعضهم أنهم سيرونها غدا وهي تقصف دمشق، وتغزو بغداد، وتحل محل الأمريكان والبريطانيين والفرنسيين في كل مكان من أرض العرب. مضحك هذا التصور، فهؤلاء ليسوا إلا تيوسا لها قرون من ذهب. على العكس تماما، فالعدوان على شعب اليمن هو تعبير تلقائي عن انهيار نفسي، وفقدان السيطرة على الأعصاب بسبب الخوف، والشعور بأن نجم هذه المملكة القرووسطية اقترب من الأفول. مملكة التيوس السعودية ودّعت بالاعتداء على شعب اليمن عهد الأمن والاستقرار، ودخلت مرحلة الانهيار. ليست مصادفة أن يقترن العدوان الهمجي على شعب اليمن باضطرابات وانقلابات داخل الزريبة الحاكمة، وليس أمرا اعتباطيا تزامن التصعيد في سورية مع هذا العدوان الجديد على شعب عربي آخر هو شعب اليمن. لكن من الخطأ حسبان هذا تعبيرا عن قوة وبأس. على العكس تماما، فالزمن يقرع أجراس دفن مملكة من أكثر ممالك العالم تخلفا، وعفونة، وفسادا في العالم كله.

السعودية المتجبرة كانت سعود الفيصل. فقد كان رغم ارتعاشة رأسه وعدم استقراره على كتفيه رمز التياسة، والجسر المتين بين المملكة وبين كل مفسدي العالم. كان سعود الفيصل بتياسته يمثل "هيبة” السعودية. بالإطاحة بسعود الفيصل لم تعد السعودية سعودية.

هناك هيجان واستنفار كبير للقوى في المنطقة، وهناك أرضية ضعيفة للافتراض أن تعقيدات الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران هي التي تفسر هذا الهيجان والاستنفار، وأن إيران في موقف حرج، وأن التحالف التركي السعودي القطري يريد استغلال هذا الحرج لتحقيق نصر حاسم في سورية. لا بأس، ولكن هذا التصور للواقع هو نقل ميكانيكي لارتدادات الهزات التي تعصف بمملكة التيوس السعودية التي يراد لها أن تخلق انطباعا بأن السعودية دخلت مرحلة الامبريالية وأن قوى شابة في الزريبة الحاكمة تريد قيادة مرحلة توسع المملكة إلى امبراطورية، وأن سورية هي التالية على القائمة بعد اليمن، وكأن مملكة التيوس انتصرت في اليمن، وستمضي قدما إلى غيرها. هذيان لا غير.

هذا الهيجان، وكل من ما يجري في المنطقة لا يبني على ما يطلقون عليه "حرج” الوضع الإيراني، فإيران كانت وستبقى القوة الفاعلة في مؤخرة الجبهات، وهي لم تفكر أبدا في الخروج إلى المواجهة المباشرة، وفعاليتها تكمن في موقعها حيث هي. لا تنسوا أن إيران ليست دولة طائشة مثل السعودية التي فقدت أعصابها بمجرد أن شعرت باقتراب الحريق من زريبتها. ولا أساس للظن بأن الأمريكان يفتحون جبهات ثانوية أمام إيران لإشغالها عن الجبهة السورية، مثلما فعلوا مع روسيا في أوكرانيا - الأمريكان يعرفون أن أوكرانيا لم تشغل روسيا عن سورية، ويعرفون أيضا أن عدوان التيوس على اليمن، أو إعلان دولة كردية على حدود إيران لن تشغلها عن جبهتها الرئيسية الستراتيجية في سورية. ونقول عرضا أن إثارة مسألة الدولة الكردية الآن قرقعة فارغة. والأمريكيون يتصرفون بغباء شديد، ربما لأنهم أيضا متوترون بسبب انهيار الوضع في زريبة حليفهم السعودي، فهذه الجبهات التي يفتحونها سيخسرونها جميعا إن لم يستطع عملاؤهم المحليون إدارتها، وإلا يكون البديل أن يتدخلوا هم مباشرة في أكثر من مكان في آن معا، وهو خطأ لن يرتكبوه، وقد تمناه لهم جيفارا الذي كان يدعو إلى خلق أكثر من فيتنام لسحق الامبريالية الأمريكية.

السعودية التي منيت بهزيمة ساحقة في اليمن لن تتورط في مواجهة مع سورية إلا إذا كانت تفكر في الانتحار قبل الانهيار. كذلك فإن أردوغان لن يخاطر بمغامرة عسكرية مباشرة في سورية من أجل عيون التيوس، بل سيشارك في المغامرة إذا تأكد بشكل يقيني مطلق من أن غيره يمكن أن يتولى المواجهة مع الثقل الأساس للجيش العربي السوري، فيجني هو المكاسب المجانية أو الرخيصة الثمن. فمن يعلق الجرس؟

السعوديون، أو بالأحرى السلمانيون، يريدون خلق حريق في المنطقة كلها يبقي لهم القدرة على التحكم بوضعهم الداخلي، وهم يريدون أن يشبكوا جيرانهم بعضهم ببعض، وهم ما يزالون لتياستهم يظنون أن كل زعماء العالم سذج مثل صدام. إيران وتركيا لن تخوضا حربا، رغم أن إيران ستكون موجودة في سورية بكل قوة. هناك قوتان اثنتان تقرران مسألة الحريق الشامل في المنطقة، وهما إسرائيل وحزب الله، وليس غيرهما. ويقينا فإن إسرائيل شأنها شأن تركيا ليست مستعدة لتحمل خسائر كبيرة في مواجهة مع حزب الله، وتأمل أن تكسب كل شيء بالأموال السعودية والقطرية وبدماء الإرهابيين الرخيصة. المعادلة تنتهي باستنتاج أساس وهو أن حزب الله هو العامل الحاسم في تقرير ما يمكن أن يحصل في المنطقة نتيجة الهيجان السعودي. إن لم يتخذ حزب الله قرارا بالحرب لن يكون هناك حريق شامل. وفي المحصلة، ستبقى المنطقة مشدودة الأعصاب بانتظار الحريق الكبير، والاحتمال الأكبر هو أن الحريق الشامل لن يحصل رغم مواجهات القلمون. حزب الله لن يتخذ قرارا بالحرب لعدة أسباب، أولها أخلاقي لأن الحريق سيلتهم كل الأطراف ومن يبدأ يتحمل المسؤولية أمام الله وأمام الشعوب والتاريخ، وثانيها لمعرفته اليقينية بأنه سوية مع سورية سيسحقان الإرهابيين، وثالثها لأنه يعرف أنه كلما تأخر اندلاع الحريق الشامل اقتربت السعودية من الاحتراق الكامل، فينتهي هيجانها برفسات الاحتضار.

نحن على موعد مع انفلات الأمور في مملكة التيوس، والله وحده يعلم كيف سيرينا آيته {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} صدق رب العرش العظيم.