المنطقـة بيـن عقلانيـة إيـران وجنـون السعوديـة
القسم الاول
أحمد الشرقاوي
لن أخجل من نفسي إن أخطأت التقدير.. حينها، سأعتذر وأراجع قناعاتي. لأن من ينطلق من قناعة في التحليل، لا ينخدع بما تسوق له وسائل الإعلام من تضليل، خصوصا في ما له علاقة بقرب عقد إتفاق بين الغرب وإيران حول ملفها النووي، ما سينعكس إيجابا على المنطقة في ظل الوساطات القائمة على قدم وساق للتقريب بين السعودية وإيران، بهدف الوصول إلى تسوية لكل الملفات العالقة بين البلدين الجارين، وفق ما يروج لذلك الحالمون.
أمريكـا.. "الإتفـاق النـووي” مدخـل لإسقـاط النظـام
العقيدة التي أتحدث عنها تقوم على ثابتتين: الأولى، أن سعي الإدارة الأمريكية الحثيت للوصول إلى إتفاق بشأن النووي الإيراني ليس هدفا في حد ذاته، بل مجرد "خديعة” باعتباره تكتيكا مرحليا للنفوذ إلى الداخل الإيراني بغاية تغيير النظام.
وفي سبيل ذلك، تلعب الإدارة الأمريكية على مستووين: المستوى الرسمي المتمثل في حكومة روحاني "المعتدلة”، بحيث تقتضي الإستراتيجية تمكينها من بعض الأوراق كمنجزات تصرفها في الداخل ليقتنع الشعب الإيراني أن خلاصه يكمن في الإلتفاف حول "المعتدلين” ودعم سياساتهم المنفتحة على الغرب وإقتصاد السوق.
والمستوى الشعبي، من خلال التركيز على شريحة الشباب الإيراني الذي يمثل طاقة الأمة الحية، حيث تسوق له أمريكا وأدواتها في الحلف الأطلسي، بطرق غير مباشرة، مزايا وهم الحرية والديمقراطية ونعيم الليبرالية الأمريكية، تحضيرا له ليقوم بثورته الملونة حين تنضج الطبخة في الدهاليز المظلمة، لتنقض أمريكا وإسرائيل والسعودية على نظام "ولاية الفقيه”.
الثابتة الثانية، أن السلاح النووي الإيراني هو في حد ذاته كذبة ناجحة، اخترعها الكيان الصهيوني و ورط فيها أمريكا، وبعد ذلك سوقت السعودية لخطورتها على أمن الخليج الفارسي بتنسيق تام مع أمريكا وإسرائيل، وهو نفس الأسلوب الذي اعتمد في العراق وسورية حين اتهم الأول بحيازة أسلحة الدمار الشامل، والثاني باستعمال الكيماوي ضد الشعب.
لأنه بالنسبة لإسرائيل، القلق الحقيقي يكمن في ما تمثله الثورة الإيرانية المجيدة من خطر وجودي على الكيان الصهيوني وأهدافه مشاريعه التخريبية في المنطقة، خصوصا بعد أن نجحت "إسرائيل” في ترويض مصر والأردن وتدجين السعودية ومشيخات الخليج واختراق عديد الأنظمة العربية والإسلامية، حيث تقيم معها تعاونا أمنيا سريا وتطبيعا إقتصاديا إلتفافيا عبر شركات "إسرائيلية” مسجلة في أوروبا وأمريكا.
وفي هذا الصدد، نشرت وكالة ‘فارس” للإنباء السبت، مقتطفات من مقابلة خاصة أجرتها مع الكاتب والباحث الأمريكي البارز ‘غرت بورتر”، قال فيها "إن الإتفاق النووي ليس نهاية العداء الأمريكي لطهران”، وأكد أن الهدف الحقيقي من إثارة ملف إيران النووي من قبل إسرائيل في البداية، كان ولا يزال هو إسقاط النظام في طهران.
وكانت إدارة ‘أوباما” قد أعلنت صراحة عند بداية المحادثات حول الملف النووي الإيراني، أن التوصل الى اتفاق نووي مع طهران لا يعني حل جميع القضايا العالقة معها، حيث ان اميركا تعتبر ايران "داعمة لإرهاب الدولة” و”عنصرا مثيرا للمشاكل في الشرق الاوسط”، وهما قضيتان متعلقتان بالامن القومي، وإن أي حكومة تأتي الى سدة الحكم في واشنطن تعتبر هاتين القضيتين من ضمن مصالحها السياسية وستواصل الضغط فيهما، كما يؤكد الباحث الأمريكي.
والباحث المذكور الذي ألف كتابا بعنوان "الأزمة المصطنعة.. القصة السرية للخوف من البرنامج النووي الإيراني”، إستنادا إلى مئات الساعات من المقابلات مع مسؤولين امنيين واستخباريين معنيين بالملف النووي، اعتبر "محاولة خلق بديل عن التهديد الذي كان يشكله الاتحاد السوفيتي السابق والعمل على تغيير النظام في الجمهورية الاسلامية الايرانية هو السبب الاساس لفبركة الوثائق من قبل اميركا و”اسرائيل” لاثارة ازمة مصطنعة إسمها "الخطر النووي الإيراني”.
ولعل أهم ما كشف عنه الكاتب، هو أنه بالرغم من الخلافات في وجهات النظر بين واشنطن وتل ابيب حول المفاوضات النووية مع ايران، الا ان "اسرائيل” مازالت تمتلك قدرة عالية على الاخلال بمسيرة المفاوضات و”نقض اي مقترح او حل معقول”. وهذا ما سبق أن استنتجناه بالتحليل عندما قلنا في مقالة سابقة أن أمريكا تفاوض إيران نيابة عن إسرائيل، وفرنسا تقوم بذات الدور نيابة عن السعودية، وأن ‘أوباما” لا يستطيع تمرير مشروع الإتفاق في حال حصل إلا إذا أقره الكونجرس الأمريكي بعد موافقة "تل أبيب”.
هذه الحقيقة يعرفها العقل الإيراني، وقد سبق للإمام الخامنائي أن حذر في أكثر من مناسبة وخطاب من "الخديعة” الأمريكية، وقال أنه لا يثق في الإدارة الأمريكية ونواياها الخبيثة المبيتة التي تستهدف القضاء على تجربة الثورة الإيرانية المجيدة لتدمير مكامن القوة في الأمة، لكنه مع ذلك ترك فرصة المحاولة لحكومة ‘روحاني”، ليس لأن هذا الأخير قادر على صنع المعجزات، بل ليقتنع الشعب الإيراني عند لحظة الحقيقة أنه لا يمكن الوثوق بأمريكا وإسرائيل وأدواتهما في المنطقة وعلى رأسها مملكة الشر الوهابية، وهذه هي قمة الديمقراطية.
من هنا نفهم سبب إنتقاد المحافظين والحرس الثوري لإنفتاح ‘روحاني” على الشيطان الأكبر، ومحاولته أخذ إيران نحو النموذج الليبرالي الإقتصادي الغربي، فيما ينصح القائد ‘خامنائي” بالتمسك بنموذج الإقتصاد المقاوم الذي يحقق التوازن ويخلق أكبر شريحة من الطبقة الوسطى المنتجة في المجتمع، بدل تكديس الثروة في حسابات الأشخاص والشركات العملاقة العابرة للقارات على حساب إفقار الشعوب واستعبادها.
كما أن الظروف التي دفعت بالرئيس ‘روحاني” للإنفتاح على الغرب تحت وطئة العقوبات الإقتصادية الظالمة قد تغيرت، ودخلت إيران في شراكة مع روسيا والصين والهند ودول البريكس في إنتظار إستكمال مؤسسات التجمع الأوراسي الجديد الذي سيضم إيران وسورية أيضا، وسيكون أكبر سوق تجارية في العالم، بعملة موحدة وسياسات إقتصادية منتجة وتكاملية. وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يهدد النظام الرأسمالي الليبرالي الموحش بالسقوط وإمبراطورية روما الجديدة وأوروبا بالإنهيار والتفكك. وبالتالي، فإيران اليوم في موقع قوة، ومن حقها أن تفرض شروطها وتحمي أمنها القومي كما يؤكد لبيوم الحرس الثوري بصوت عالي لا يعجب ‘روحاني”.
إيــران – السعوديــة.. التوافــق المستحيــل
أما على مستوى العلاقات الإيرانية السعودية، فكما كنت أقول وأعيد وأؤكد دائما، أن تفاهما إيرانيا سعوديا لحل أزمات المنطقة وإدارة ملفات الأمن والإقتصاد والتعاون هو وهم مستحيل التحقق، بسبب العامل الإديولوجي الذي يحكم الصراع التاريخي بين الطرفين ويؤثر على طبيعة العلاقات بين البلدين لإختلاف أنموذجين ومشروعين ونهجين..
الأنموذج الأول عقلاني، وصل مستوى عال من التقدم العلمي والتكنولوجي فامتلك أسباب القوة التي تسمح له بالتحكم في قراره السيادي، ويفاوض الغرب بكرامة من موقع قوة دفاعا عن مصالح شعبه وأمته، ويحمل مشروع إحياء "الأمة” كما بشر بها القرآن، لا كما إختزلها الطغاة في الجغرافية الديموغرافية لأوطانهم، أو الجماعات السياسوية الإنتهازية في شرنقة تنظيماتهم، أو الوهابية البغيضة المجرمة تحت مظلة التطرف والتكفير.
الأنموذج الثاني رجعي وظلامي، يتصرف بمنطق لا يمث للعقل والعقلانية ولا للدين والإنسانية بصلة، ولا يحمل من مشروع لبلده وأمته غير التخلف والجهل، ويعمل ليل نهار على تشويه صورة الإسلام وتدميره من قواعده بالإرهاب والإجرام، وبهذا المعنى، لم يكن إختيار إسم "القاعدة” إعتباطيا. وتعتقد السعودية أنه بالمال الحرام، يمكن للجهل أن ينتصر على العلم، والكراهية على المحبة، والإنتقام على التسامح، وتصبح الأخلاق عملة لا تصرف في سوق السياسة، فيسود الظلام والقتل والخراب، ما يفشل أي محاولة من جانب إيران لتوحيد الأمة على كلمة سواء ضد عدوها الحقيقي "إسرائيل” لتعود كما كانت حرة، عزيزة، كريمة، فيصدق فيها قوله تعالى: (كنتم أحسن أمة أخرجت للناس).
وللإشارة، فمشروع إحياء "الأمة” هو أخطر على إسرائيل والغرب من مشروع القومية العربية الذي حاربته السعودية ونجحت في تحويله إلى جثة هامدة لم يبقى منها إلا ذكرى مواقف شجاعة وشعارات جميلة.
"إسرائيل” ومنذ أن زرعت في المنطقة، لا هم ولا شغل لها إلا العمل ليل نهار وبكل الوسائل والأساليب الممكنة والمتخيلة للحؤول دون حصول هذه الوحدة التي تنادي بها اليوم إيران، لما تمثله من خطر وجودي حقيقي عليها وعلى مصالح أمريكا. وعلينا أن نعترف، أن اليهود، وبخلاف العرب، يقرؤون التاريخ ويستخلصون منه الدروس، ويؤمنون بنبوءات الأحبار الذين زوروا التوراة وحولوها إلى أساطير وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، وهو ما مكنهم من إجراء عملية غسيل دماغ فظيعة ليهود العالم ساعدت على جلبهم من كل فج عميق ليدنسوا أرض فلسطين الطاهرة، بعد أن أقنعوهم بأن لا عاصم لهم اليوم من الأعداء سوى "الصهيونية” القومية العنصرية الحامية للخصوصية اليهودية، والتي هي أم الحركات الإجرامية التي عرفها العالم كالنازية والفاشية والماسونية والوهابية وغيرها.
وبالتالي، فمن سوء حظ الأمة، أنها ظلت مغيبة عن الأحداث وغائبة عن الوعي طوال عقود من الزمن، إلى أن إستفاقت اليوم لتجد نفسها أمام مفاهيم جديدة وعقيدة غريبة تقول، أن "إسرائيل” لم تعد عدوا، بل صديقا وحليفا في السياسة والأمن والإقتصاد، وأن لا عدو للعرب والمسلمين اليوم في المنطقة غير "إيران” الصفوية "الشيعية”، والتي يجب مواجهتها للحد من نفوذها في المنطقة العربية التي تحولت إلى ملكية مسجلة بإسم السعودية، الوجه الآخر للصهيونية. وبذلك يتم السكوت عن النفوذ الأمريكي والصهيوني الذي فرق الأمة وزرع بذور الفتنة بين مكوناتها لتظل منقسمة، ضعيفة، متصارعة، جاهلة، فقيرة ومتخلفة.