الإمام الحسن (عليه السلام) ومصلحة الإسلام العليا
إن المقام المقدس الذي حظي به الإمام الحسن (عليه السلام) على لسان جده رسول الله (صلى الله عليه و اله وسلم)، يدفعنا لمزيد من التأمل في سيرته المباركة، بكل ما تحتويه من جوانب عظمة وكمال ذاتية وحكمة وسداد رسالي، والذي نراه ينجسم تماماً مع وصف رسول الله (صلى الله عليه و اله وسلم) له وموضعه منه فيما ورد عنه (صلى الله عليه و اله وسلم) في حقه (عليه السلام) منها:
عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: "لما ولدت فاطمة الحسن (عليه السلام) قالت لعلي (عليه السلام): سمّه، فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله، فجاء رسول الله (صلى الله عليه و اله وسلم) فأخرج إليه في خرقة صفراء فقال: ألم أنهاكم أن تلفّوه في خرقة صفراء؟! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها، ثم قال لعلي (عليه السلام): هل سميته؟ فقال: ما كنت لأسبقك باسمه، فقال (صلى الله عليه و اله وسلم): وما كنت لأسبق باسمه ربي عزّ وجل.
فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط فأقرئه السلام وهنّئه وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون، فهبط جبرئيل (عليه السلام) فهنأه من الله عزّ وجلّ ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، قال: وما كان اسمه؟ قال: شبَّر، قال: لساني عربي، قال: سمه الحسن، فسمّاه الحسن".
وقال رسول الله (صلى الله عليه و اله وسلم): "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما".
وعن زينب بنت أبي رافع عن أمّها قالت: قالت فاطمة (س): يا رسول الله هذان ابناك فانحلهما، فقال رسول الله (صلى الله عليه و اله وسلم): "أما الحسن فنحلته هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فنحلته سخائي وشجاعتي".
وعن البرّاء بن عازب قال: "رأيت رسول الله (صلى الله عليه و اله وسلم) واضعاً الحسن على عاتقه فقال: من أحبّني فليحبّه".
وقوله (صلى الله عليه و اله وسلم): "اللهم إني أحبّه فأحبه وأحبّ من يحبه قال: وضمّه إلى صدره".
واجتمع أهل القبلة على أن النبي (صلى الله عليه و اله وسلم) قال: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".
ولو سبرنا حياة الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) لوجدنا ذات الخط الذي نهجه أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمه فاطمة الزهراء (عليها السلام)، يتجسد مرة أخرى في سيرته الرسالية، حيث لم ير مصلحة فوق مصلحة الإسلام العليا، ولا قيمة لشيء أكبر من قيمتها، بل لقد أرخص سلام الله عليه كل شيء في سبيله، لأنها سبيل الله وكلمته العليا.
لقد أجمع المؤرخون أن خلافته كانت في صبيحة اليوم الذى دُفن فيه أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وبعد الفراغ من إنزال حكم الله بقتل ابن ملجم، فقد ضربه ضربة واحدة قضت عليه كما أوصاه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم تجمّع عند الامام الحسن (عليه السلام) صبيحة ذلك اليوم حشد كبير من أهل الكوفة غصّ بهم الجامع على سعته، فوقف خطيباً حيث كان يقف أمير المؤمنين وحوله من بقي من وجوه المهاجرون والأنصار، فابتدأ خطابه في مصابه بأبيه الذي أصيب به جميع المسلمين، وقال بعد أن حمد الله وصلّى على محمد وآله: "لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل. لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وأينما وجّهه رسول الله كان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد توفّي في الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم إلى السماء، وقُبض فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف خضراء ولا بيضاء سوى سبعمئة درهم فضلت عن عطائه أراد أن يبتاع فيها خادماً لأهله، وقد أمرني أن أردّها إلى بيت المال".
ثم تمثل له أبوه وما كابده في حياته من الآلام والمتاعب فاستعبر باكياً، وبكى الناس من حوله حتى ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب من جميع أنحاء الكوفة، وعاد إلى حديثه بعد أن استنصت الناس، وقال: "أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي والوصي، وأنا ابن البشير النذير والداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وافترض مودّتهم على كل مسلم فقال في كتابه: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً)، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت".(9)
وبعد خطابه هذا أقبل الناس يتسابقون إلى بيعته، وتمّت بيعته في الكوفة والبصرة، كما بايعه أهل الحجاز واليمن وفارس وسائر المناطق التي كانت تدين بالولاء والبيعة لأبيه. ولمّا بلغ نبأ البيعة معاوية اجتمع بكبار أعوانه، وشرعوا بحبك المؤامرات ورسم الخطط لنقض بيعة الامام الحسن (عليه السلام) وتقويض خلافته. وعندما نستقرئ سيرة الامام الحسن (عليه السلام) ومواقفه إزاء هذه المؤامرات والفتن الطخياء، تتجسد أمامنا قمة الفناء في الله سبحانه، واتّخاذ مصلحة الإسلام العليا مقياساً حاسماً لمواقفه ومواجهاته، مضحّياً بكل شيء دون ذلك.
فسلام عليه يوم ولد ويوم عاش المعاناة الاليمة مع معاوية ويوم استشهد مظلوما محتسبا كل ذلك عند الباري تعالى.