مؤتمر هرتسيليا يفضح الكيان
إيهاب شوقي
رغم انتشار مناخ إعلامي ودعائي مملوء بكلمات التهديد والوعيد الصهيونية لإيران وللمقاومة، إلا أن هذا المناخ لم يؤثر على المقاومة وبيئتها وخطابها، لأن للمقاومة قراءتها المبنية على الرصد الدقيق لوضع العدو، والأهم أنها تمتلك جهوزية لجميع السيناريوهات بما فيها الأكثر مجازفة وجنونًا وحمقًا وانتحارًا من جانب العدو.
ولكن هنا يجب الالتفات إلى فساد المناخ الإعلامي والذي ركز على كلمات التهديد والتي سحبها العدو وتراجع عنها، وتم اقتطاع هذه الكلمات من سياق كبير مملوء برصد العدو لأزمته ومأزقه الاستراتيجي غير المسبوق، حيث لم تتم التغطية اللائقة بمؤتمر هرتسيليا والذي حفلت جلساته بكلمات وتقارير لا يمكن تجاهلها بسبب أهمية المؤتمر وأهمية من يتحدث به، وبالتالي دقة توصيف هذه الكلمات لوضع العدو.
وهنا سنلقي الضوء على المؤتمر الأخير الذي عقد منذ أيام وأهم ما جاء به لأن ذلك يؤكد دقة قراءة المقاومة ودقة ما أورده الأمين العام سماحة السيد حسن نصر الله من التحولات الاستراتيجية، وهو ما يؤكد أن المقاومة ترصد عمليًا وعلميًا ولا يأتي حديثها في سياق الحروب النفسية.
مؤتمر هرتسيليا من المؤتمرات الهامة لدى العدو الإسرائيلي، وهو مؤتمر يعقد بشكل دوري منذ عام 2000، وهو تأسس بمبادرة من عوزي آراد، الضابط السابق في الموساد والذي شغل منصب المستشار السياسي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
والمؤتمر يضم النخب الإسرائيلية في الحكومة والجيش والمخابرات والجامعات ورجال الأعمال وضيوف من المتخصصين الأجانب من الولايات المتحدة وأوروبا، وتتم فيه مناقشة مستقبل الكيان الصهيوني ووضعه اقتصاديًا وعسكريًا واجتماعيًا، ورصد الأخطار المحيطة بها من الداخل والخارج في دول الجوار وفي الإقليم وفي العالم تحت هدف استراتيجي واسع وهو "الأمن القومي لإسرائيل".
ومن أهم الكلمات الواجب الاتفات اليها في المؤتمر الأخير، وفي كل مؤتمر بالطبع، كلمة رئيس الهستدروت " الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية" ، لسبب بسيط، وهو أن لهذه المنظمة ثقل كبير في "إسرائيل" سياسيًا فهي تعتبر دولة داخل الدولة.
والهستدروت يشكل قوة اقتصادية واجتماعية كبرى، فهو يملك أو يشرف على مؤسسات اقتصادية تساهم بنحو 60% من الإنتاج الزراعي في "إسرائيل"، و50% من الصناعة الثقيلة، و25% من الإنتاج الصناعي، و45% من أعمال البناء، و39% من وسائل النقل، أي أنه يسيطر على حوالي ربع الإنتاج القومي.
كما يشارك في بعض الأوقات مع رأس المال الحكومي أو الخاص أو الأجنبي في إقامة المشاريع وإدارتها في الداخل، وكذلك في بعض البلدان في الخارج، وخاصة في أفريقيا وبعض بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية، كما يمتلك مصرفًا خاصًا ومؤسسات كبيرة للخدمات الصناعية والاجتماعية.
وفي كلمة رئيس الهستدروت "أرنون بار ديفيد"، حذر أرنون من أن البلاد "تتحول من بلاد لجميع مواطنيها إلى بلاد لجميع قبائلها". وقال نصًا: "لم يكن الوضع الاجتماعي هنا في (إسرائيل) قط قطبيًا وخطيرًا وإشكاليًا كما هو الآن. إننا نتحول من "دولة" جميع مواطنيها إلى دولة جميع قبائلها. القبيلة العلمانية، القبيلة الأرثوذكسية، قبيلة المستوطنين، قبيلة التكنولوجيا الفائقة، والقبيلة اليسارية، والقبيلة الشرقية. أسأل - هل خرجنا عن القضبان؟".
وتابع رئيس الهستدروت: "هل نفكك المشروع الصهيوني بأيدينا؟ من مكان ضمان متبادل ودولة اجتماعية، تحولنا إلى مجموعة من القبائل التي يهتم كل منها بجمهورها"، وقال: "نحن الآن الحصول على مجتمع مستقطب تتسع فيه الفجوات.. نحن ندمر ما حاربنا من أجله منذ عرش الصهيونية".
وهو كلام خطير يعبر بعمق عن الحجم الحقيقي للتفكك والانقسلم الداخلي داخل الكيان. أما وزير الحرب يوآف غالانت، فامتلأت كلماته بالخوف والتحذير من تنامي القدرات والخطر الإيراني على الكيان، حيث قدم بيانات عن إنشاء إيران لما أسماه "قواعد إرهابية عائمة"، وأبرز النشاط المتسارع للحرس الثوري لتحويل السفن التجارية المدنية إلى سفن عسكرية. وعَكَسَ كلامه الشعور بالخوف وبأن إيران تضيق الخناق على الكيان في الدوائر الاستراتيجية التي حددها لأمنه القومي.
أما رئيس الأركان هرتسي هاليفي، فقد ذهب إلى خلاصة مفادها أن "العالم يمر بقدر كبير من التغيير والعديد من الأزمات. وأن عدم اليقين آخذ في الازدياد". واستنتج هاليفي صعوبة حروب الجيوش التقليدية مع الجيوش غير النظامية وأهمية الروح القتالية، وهي إشارة لا تخطئها العين إلى معضلة الكيان في صراعه مع المقاومة.
وبخصوص إيران، قال هاليفي:"على الصعيد الإقليمي، إيران معنية بكل أمر من حولنا، وفي كل أمر ضدنا، في التوجيهات والمعرفة والمال. كل عدو نلتقيه بدرجة أو بأخرى له بصمة إيرانية".
أما رئيس الموساد السابق فقد ذهب إلى خلاصة لافتة وموحية وهي أن: "إسرائيل فعّلت آلية لتدمير الذات"، حيث قال تامير باردو الرئيس السابق للموساد في مؤتمر هرتسيليا إن "أكبر تهديد "لدولة إسرائيل" هو الانقسام الداخلي".
أما الحاخام الأكبر يعقوب شبتاي، مفوض الشرطة فقد صاح شاكيا من نقص الموارد، وقال إن "شرطة "إسرائيل" صغيرة بالنسبة لمهامها.. المهام تتراكم، لكن القوة البشرية في الشرطة لا تتزايد بما يتناسب مع التطابق بين زيادة المهام والنمو الديموغرافي. تؤدي قوة شرطة صغيرة وقليلة العدد إلى الاستنزاف، ويقضي الاستنزاف على قدرتنا على الصمود".
هذه الكوارث التي فضحها مؤتمر هرتسيليا تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك ما حدث بالكيان من تراجع لا يتناسب مع الخطاب التصعيدي الأجوف غير المتناسب مع حقائق القوة، كما يؤكد أن هناك مناخًا إعلاميًا فاسد يقتطع بعض التصريحات الصهيونية ليبرزها لممارسة حرب نفسية على جمهور المقاومة، وهي حرب لن تفيد العدو ومن يعاونه، لأن المقاومة لها قراءتها الدقيقة القائمة على معطيات وضع العدو وموقفه، وعلى معطياتها الذاتية وما وصلت إليه من جهوزية.