السودان في فخ الفراغ الدولي والاقليمي
إيهاب شوقي
لا شك أن الأحداث في السودان والذي يشهد اشتباكات مسلحة تؤثر على أمن الشعب السوداني، هي أحداث مؤسفة وتدعو إلى القلق على الشعب السوداني الذي تقبع أغلبيته تحت ظروف صعبة وتنتمي للمستضعقين، والقلق أيضًا على مستقبل دولة عربية وإسلامية هامة بموقعها وقوتها.
ولكن المتابعة والرصد الدقيق للأحداث وجذورها وتطوراتها لا يخلوان من عظة وعبرة ودروس مستفادة، أهمها أن الرهانات والاستقواء بالخارج على حساب المصلحة الوطنية، لن تكون نتيجته إلا الخراب، وكذلك التفريط في الثوابت الوطنية والقضايا الكبرى للأمة والاعتماد على العدو الإسرائيلي كبوابة لاعتراف دولي، لن يؤدي إلا إلى حلقة مفرغة من التفريط من عدة جهات والوصول لمعركة داخلية خالية من الأهداف الوطنية وعنوانها الصراع على السلطة دون امتلاك قضية.
ولا شك أن معظم المعارك تبحث الجماهير فيها عن طرف يمالك الحق أو طرف يمثل توجهات الجماهير لأن الانحياز طبيعة فطرية، ولكن الوضع الراهن في السودان يصعب معه تمييز الحق من الباطل، ويصعب معه الانحياز، حيث تخرج جميع الأطياف بيد خالية من العوامل التي يمكن تأييدها أو الانحياز لها.
فعلى مستوى الثوابت الوطنية، فرطت جميع الأطراف في مصالح السودان الاقتصادية وحمت استمرار الفساد والفاسدين رغم الاجراءات الشكلية واللجان التي حملت اسم مقاومة الفساد، وعلى مستوى قضايا العروبة، انحازت المؤسسة العسكرية بكاملها وليس قوات الدعم السريع فقط للعدوان على اليمن، وأرسلت الجنود والمرتزقة للاعتداء على الشعب اليمني دون أن يشكل اليمن أو تشكل ثورته أي خطر على السودان، وذلك مقابل الدعم السعودي والإماراتي المادي، وعلى مستوى القضية المركزية، وهي القضية الفلسطينية، التقت جميع الأطراف المتحاربة مع نتنياهو وقادة الموساد سرا وعلنا، معتبرة "اسرائيل" بوابة للاعتراف الدولي وبوابة لفتح ابواب الدعم الأمريكي ورفع العقوبات عن السودان.
والأمر المحزن أكثر أن البديل المدني الذي ترأسه عبد الله حمدوك واصبح واجهة له، هو الآخر أعلن انحيازه للتطبيع مع العدو وأجرى لقاء مع صحيفة "معاريف" الصهيونية يبشر فيه العدو بالتطبيع، وهو ما يعني أن الصراع على السلطة في السودان أصبحت بوابة الاستقواء به هي التنافس على دعم الخليج المادي والدعم السياسي من العدو الصهيوني.
الا أن الكفة لا بد من أن ترجح دومًا نحو الجيش الذي ما زال يدعو الى جمع السودان وعدم التفريط بوحدته ومنع تقسيمه، وهذا هو الامل الوحيد بحفظ هذا البلد العربي الغني بثرواته.
ومن مجمل التقارير حول تطور الطغمة العسكرية في السودان ووصول الأمور لهذا الاهتراء ثم الصراع المسلح، يمكن رصد ما يلي باختصار:
1- كان قطاع الأمن والدفاع أكبر المستفيدين من التبديد للثروات، وخلال حكم البشير، تم تخصيص أكثر من 70 بالمائة من نفقات الحكومة لقطاع الدفاع والأمن، في حين حصلت جميع القطاعات الأخرى من تعليم عام وصحة وزراعة وصناعة وتجارة على أقل من 10 بالمائة من نفقات الميزانية لتيسير أمورها وتحقيق نمو.
2- تم تمكين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وجهاز الأمن والاستخبارات الوطني وقوات الشرطة الوطنية من بناء حيازات اقتصادية هائلة، أغلبها مسجل تحت قانون الشركات الخاصة. ونتيجة لذلك، فإن هذه الكيانات المؤسسية العامة المزعومة استفادت من وصولها التفضيلي إلى عقود الواردات والصادرات لكن سُمح لها بالإبقاء على معظم إيراداتها خارج ميزانية الحكومة.
3- منذ استيلاء المجلس العسكري الانتقالي على السلطة فإنه يحاول اكتساب الشرعية من خلال تقديم تنازلات رمزية أمام طلبات المحتجين لإنهاء الفساد المستشري، ورغم ذلك فإن حملة مقاومة الفساد التي لاقت الكثير من المدح كانت محدودة جداً، حيث تحاشت الكثير من الفاسدين المعروفين، بل والأكثر من ذلك أنها حاولت حماية الإمبراطورية الاقتصادية التي حكمها قطاع الأمن دون أي رقابة مدنية.
4- أعلن الجنرال محمد حمدان دقلو ”حميدتي”، قائد قوات التدخل السريع ونائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي حالياً، خلال مؤتمر صحفي أنه تبرع بمبلغ 1.03 مليار دولار للبنك السوداني المركزي ووزارة المالية والاقتصاد الوطني. وقد جاءت النقود، بحسب ما قال، من “مرتبات جنودنا ومن عمليات التنقيب عن الذهب التي نتولى إدارتها”. وقد كان هذا التلميح والإعلان العام اعترافا واضحاً بأن مرتبات محاربي قوات التدخل السريع المنتشرين في حرب اليمن يتم حفظها في حسابات خارج الميزانية لا تخضع لسيطرة وزارة المالية او البنك المركزي. وهذه القوات تقاتل في العدوان الذي تقوده المملكة العربية السعودية ويسدد السعوديون والإماراتيون رواتبهم.
كذلك هي دليل على ملكية الجنرال هو وشقيقه، نائب قائد قوات التدخل السريع، لمجموعة شركات الجنيد. وقد توسعت أعمال العائلة بسرعة في السنوات الأخيرة، من إدارة أنشطة تجارية متواضعة إلى إدارة شركات تابعة في قطاعات النفط والحديد والنقل والإنشاءات والهندسة والإعلام والسياحة. ويبدو أن شركة التنقيب عن الذهب والمعادن التابعة للمجموعة تعمل على تنمية أعمالها، مع منحها تراخيص تعدين جديدة من جانب النظام السابق لمزاولة الأنشطة عبر مختلف أنحاء السودان.
5- هناك قناعة شعبية بالسودان بأن إصرار المجلس العسكري الانتقالي على الاحتفاظ بسلطة حقيقية أثناء عملية التحول تأتي مدفوعة في جزء كبير منها برغبة القادة في الحفاظ على القوة الاقتصادية الهائلة السابقة التي أولاها النظام لقطاع قوات الأمن والدفاع وكبار القادة الذين وفروا له الحماية على مدار العقود الثلاثة الماضية.
وعلى مستوى العلاقات مع العدو الصهيوني، يكفينا الاسترشاد بثلاثة أخبار على النحو المختصر التالي:
أولا: أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم 3 فبراير/شباط 2020 أنه التقى برئيس المجلس السيادي في السودان عبد الفتاح البرهان في العاصمة الأوغندية عنتيبي وأنهما اتفقا على بدء الحوار من أجل "تطبيع العلاقات" بين البلدين، ووصف نتنياهو اللقاء في تغريدة له بأنه "تاريخي".
وفي خطوة لافتة، كشف مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية المكلف بنيامين نتنياهو في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 تلقيه برقية تهنئة بفوزه في الانتخابات من رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
ثانيًا: أفادت الأنباء إن وفدا عسكريا سودانيا بقيادة الفريق "حميدتي"، زار "إسرائيل" سرا، وبحسب صحيفة "السوداني"، ضم الوفد قائد قوات الدعم السريع "حميدتي"، ومدير منظومة الصناعات الدفاعية ﻣﻴﺮﻏﻨﻲ ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ.
وفي حزيران/ يونيو 2021، أفاد موقع "والا" العبري بأن أوساطا حكومية في السودان غاضبة من زيارات استخبارات الاحتلال الإسرائيلي لـ"حميدتي"، والاتصالات الخاصة بين الجانبين.
وأشار الموقع الإسرائيلي إلى أن البيانات حول مواقع تتبع الطائرات أظهرت أن طائرة استخدمها رئيس "الموساد" السابق يوسي كوهين قد هبطت عدة مرات في الأراضي السودانية، وكان على متنها مسؤولون كبار في الجهاز، حضروا لقاءات مع رجال حميدتي، وأوضحت أن "حميدتي" ومنذ بدء عملية التطبيع حاول البحث عن قنوات اتصال مع الاحتلال، قد التقى مع كبار مسؤولي الموساد في أب/ أغسطس 2020، مما دفع برهان لأن يشتكي من ذلك عدة مرات خلال فترة بنيامين نتنياهو كرئيس للوزراء".
ثالثا: اعتبر رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، في يونيو 2021، في أول مقابلة مع وسائل إعلام إسرائيلية، أن عملية التطبيع مع "إسرائيل" في مصلحة بلاده، مؤكدا أنها ستلتزم بهذا الاتفاق.
وأجرى حمدوك لقاء مع صحيفة "معاريف" العبرية، أكد من خلاله أن عملية التطبيع مع "إسرائيل" ستستمر بأي حال من الأحوال، ونقلت الصحيفة عن حمدوك: "هذا في مصلحتنا وهذا ما نريده. أخذنا على عاتقنا التزامات وستقوم بتنفيذها، نحن حاسمون بشكل كامل على تطبيق الاتفاق مع إسرائيل حتى إذا تمثل المواجهة الحالية بين إسرائيل والفلسطينيين لحظة غير مناسبة".
ان ما يحدث بالسودان هو عبرة للأنظمة التي تراهن على الخارج وتستقوي بالعدو، فلن تكون المآلات سوى الصراع الدموي على السلطة والتي يدفع ثمنها الشعوب.
ومن جهة أخرى فإن وصول الصراع لهذه الحدة يعكس حجم الفراغ السياسي الناتج عن التراجع الأمريكي وكذلك التطورات الإفايمية وتفير التوازنات والاقتراب من الحل في اليمن وعدم الحاجة للمرتزقة وتغير الأولويات، وهو فراغ ترتخي به قبضة القوى الدولية والإقليمية، ويجد معه كل طرف طامح للسلطة فرصته في استخدام ما في وسعه من قوة للوصول الى السلطة وهو جرس انذار بفوضى عارمة في أكثر من بلد غير السودان.