ماذا كشفت الوثائق الأميركية المسرّبة من أسرار؟
د. علي أكرم زعيتر
من سرّب وثائق البنتاغون الأخيرة؟ السؤال الأكثر إلحاحاً في واشنطن حاليّاً؟
هل هم قراصنة روس؟ هل هو جاسوس روسي أو صيني نجح في اختراق قاعدة البيانات الأميركية وسرّب وثائق بهذه الأهمية؟ هل هو مجرد موظف استخباري أميركي قرّر التمرّد على مدرائه في العمل، بعدما سئم من ظروف العمل، فشرَع بتسريب كلّ تلك الوثائق؟ هل هو براندلي مانينغ جديد (أطلق على نفسه لاحقاً اسم تشلسي، بعدما تحوّل إلى امرأة!)؟ هل هناك إهمال وظيفي أدّى إلى وقوع هذه الوثائق في أيدي أناس يعرفون قيمتها جيدّاً؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة، دعونا نتفق على أمر بالغ الأهمية، وهو أنّ أحداً ما حتى الساعة لم يتثبّت من صحة الوثائق، فكثيرون يتداولونها عبر الشبكة العنكبوتية، وعديدون من الكتاب والصحافيين أطلقوا العنان لأقلامهم تحقيقاً وتمحيصاً وتحليلاً، لكن دون أن يكلف أحد نفسه عناء التحقّق من مدى صحتها وموثوقيتها. فما مدى صحة هذه الوثائق، وما مدى أهميتها في حال ثبتت صحتها، وهل نحن أمام ويكيليكس جديدة؟
حتى الساعة لم يدلِ أيّ مسؤول أميركي سابق أو حالي بمعلومات وافية حول ما إذا كانت الوثائق مزوّرة أم لا. يبدو أنّ هناك تكتماً شديداً نظراً لحساسية الأمر. ولكن، بالمجمل يمكن أن نستشفّ من خلال التصريحات التي تصدر من هنا وهناك، ومن خلال المقالات التي كتبت في كبريات الصحف الغربية والأميركية، أنّ الوثائق صحيحة مئة بالمئة، وأنها من الأهمية بمكان، بحيث لم يجرؤ أيّ مسؤول أميركي رفيع أو بسيط حتى الساعة على نفي أو إقرار صحتها.
بعض المحللين الغربيين قللوا من أهمية الوثائق معتبرين أنها ضرب من ضروب المزاح الاستخباري بين الروس والأميركيين والأوكرانيين، والبعض الآخر رأى أنّ الوثائق الممهورة بعبارة ”سرّي للغاية“، لا يمكن الاستخفاف بها على الإطلاق، فلولا أهميتها لما أحاطتها الاستخبارات الأميركية بكلّ هذه السرية، فيما رأى فريق ثالث من المحللين أنّ عملية تسريب الوثائق برمّتها، مدروسة ومقصودة، وتقف وراءها الاستخبارات الأميركية نفسها، وقد هدفت من ذلك إلى تضليل القيادة الروسية، لا سيما أنّ بينها وثائق تتعلق بموعد شنّ الجيش الأوكراني هجوماً معاكساً مطلع الربيع المقبل.
يُقال، بأنّ هناك ما يزيد عن 100 وثيقة جرى نشرها منذ 23 كانون الثاني الماضي على منصتي “تويتر” و”تليغرام”. بعضها يتناول الحرب في أوكرانيا، كما ذكرنا آنفاً، وبعضها يتناول العلاقات الثنائية بين واشنطن وبكين، وبعضها الآخر، عُدّ بمثابة قرائن تثبت تورّط واشنطن في التجسّس على حلفائها، ومن جملتها واحدة تطرّقت إلى موقف جهاز الاستخبارات الإسرائيلي من حكومة نتنياهو، وتورّط بعض ضباطه في تأييد التظاهرات التي خرجت مؤخراً، مندّدة بالوضع السياسي القائم في كيان الاحتلال.
المطبخ السياسي في واشنطن حاليّاً منهمك في محاولة الإجابة على السؤال ــ حديث الساعة ــ الذي استهلينا به مقالنا: من سرب الوثائق؟
أصابع الاتهام في الوقت الحالي تتجه نحو أحد الأميركيين المتضرّرين من سياسة جو بايدن. فيما يبدو وكأن أحد فلول ترامب هو من فعل ذلك، بغرض التشويش على بايدن. ولكن لا شيء مؤكد بهذا الخصوص، فقد كثُر في الولايات المتحدة مؤخرّاً تبادل الاتهامات بين الجمهوريين والديمقراطيين.
لا ندري صراحةً من يقف خلف التسريب، ولا يبدو أنّ الأجهزة الرسمية الأميركية تعرف ذلك حتى الساعة، أو على الأقلّ هذا ما تدّعيه. ولكن بما أنّ المسألة تحوّلت إلى قضية رأي عام محلي (أميركي) وعالمي، فمن المتوقع برأينا أن يتسبّب ذلك بإحراج السلطات الأميركية، ما يضطرها إلى الكشف قريباً عن هوية الفاعل.
قد يبدو للوهلة الأولى، أنّ المتضرر الوحيد من التسريب هي أميركا وحلفاؤها، ولكن بعد الاطلاع على فحوى الوثائق يتبيّن أنّ كلّ الأفرقاء متضرّرون. الكلّ بلا استثناء. أميركا، روسيا، أوكرانيا، الكيان الصهيوني، أوروبا، الصين. من الواضح جدّاً أنّ من فعل ذلك لا يريد خيراً، لا بالولايات المتحدة الأميركية، ولا بروسيا، ولا بأوكرانيا، ولا بالكيان الصهيوني، ولا بكلّ من ورد ذكره في الوثائق.
لقد أضرّت الوثائق بالجميع دون استثناء، ما عطّل إمكانية التعرّف على الفاعل عبر إعمال القاعدة الشهيرة ”فتِّش عن المستفيد“، إذ لا مستفيد ممّا جرى.
بلى، إذا أعملنا حسّنا الاستقصائي، فمن المرجح أن ننحو إلى الاعتقاد بأنّ الفاعل قد تعمَّد تسريب وثائق تضرّ بالجميع، بغرض إبعاد الشبهات عنه.
الوثائق كثيرة، كما ذكرنا، ولم يتسنَّ لنا الاطلاع إلا على جزء بسيط منها، أو بالأحرى على ما يهمّنا، ولكن بحسب ما هو بادٍ، فإنها تتمحور حول أربع نقاط رئيسية:
أ ـ نقص حاد في عتاد الجيش الأوكراني، فقد جاء في إحداها أنّ الجيش الأوكراني بدأ يعاني مؤخرّاً من نفاد مخزونه من صواريخ منظومتَي S300 وبوك المضادتين للطائرات، ما يهدّد أجواءه ويجعلها مستباحة أمام الطائرات والصواريخ الروسية، وهو ما ينبئ بدوره باحتمال خسارة أوكرانيا للحرب.
ب ـ خسائر روسيا العسكرية، حيث ورد في وثيقة أخرى أنّ الجيش الروسي تكبّد منذ بداءة عملياته العسكرية في أوكرانيا خسائر كبيرة جدّاً في الأرواح والعتاد.
ج ـ انحياز الكيان الصهيوني لصالح أوكرانيا. فقد بيّنت إحدى الوثائق أنّ الكيان الصهيوني يعتزم تسليم أسلحة فتّاكة إلى أوكرانيا، وذلك بخلاف ما سبق أن أعلن عنه من أنه سيلتزم مبدأ الحياد خشية إثارة سخط روسيا.
د ـ الأوروبيون الغربيون متورّطون حتى النخاع في إمداد زيلنسكي بالدعم العسكري واللوجستي، وهو ما قابله أحد المسؤولين الروس بالقول: لم تأتِ وثائق البنتاغون بشيء جديد، فنحن نعرف جيدّاً مدى تورّط أوروبا الغربية في دعم النازيين الجدد في أوكرانيا.
هـ ـ الشأن الداخلي “الإسرائيلي”، فمن بين الوثائق واحدة أشارت بوضوح إلى انخراط جهاز الاستخبارات الإسرائيلي في مؤامرة للإطاحة بنتنياهو.
وهكذا، نلاحظ أنّ الوثائق لا تميل كلّ الميل إلى طرف دون الآخر، مما يضفي عليها شيء من المصداقية من جهة، ويجهِّل الفاعل من جهرة أخرى، نظراً لغياب المستفيد، كما سبق وأشرنا.
هناك من يعتقد أنّ تسريب وثائق تتحدّث صراحةً عن خسائر روسيا في الميدان، بما لا يخدم مصالحها ومعنويات جيشها، يقلّل من احتمال تورّط الاستخبارات الروسية في الأمر.
وفي المقابل، هناك من يتصوّر أنّ هذه الوثائق تحديداً (المتعلقة بالأوضاع الميدانية للجيش الروسي)، مزوّرة وملفقة، وقد جرى إقحامها بين الوثائق الصحيحة بهدف التعمية على الفاعل.
الآراء كثيرة متنوعة، وباب الترجيحات والتخمينات مفتوح على مصراعَيه. فيما الحقيقة لا تزال غائبة، والجميع بانتظار ما ستسفر عنه تحقيقات البنتاغون في الأيام القليلة المقبلة، فهل يفلح الساحر حيث أتى، أم ينقلب عليه السحر؟