أوراسيا والخريطة الدولية الجديدة
فاديا مطر
إنّ جولة وزير الخارجية الأميركية الأخيرة للمنطقة العربية الخليجية قد أبرزت متناقضات كثيرة حملتها النتائج المتصدّرة لمشهد العلاقات الأميركية ـ الخليجية، فالأخيرة لا ترى في السياسة الأميركية الجديدة سوى التطمينات التي تعزز مواقع التراجع الأميركي في المنطقة العربية بالشكل الأمني والعسكري والحضور الفاتر على وقع الانشغال الأميركي بالحرب مع روسيا في أوكرانيا، حيث تحاول واشنطن تطويع مفرزات الحرب في الحوض الأوراسي بحلقة التخفيف من الحرب النارية التي تفوّقت عليها الحرب الإلكترونية الروسية في مواقع مهمة، وتحويل منظومة ذلك الصراع نحو الحرب البيولوجية والإقتصادية، وذلك مع الضغط الإقتصادي على الحلفاء التقليديين لكلّ من الصين وروسيا كجزء من حزمة العقوبات التي تفرضها واشنطن بشكل مضطرد.
فالنائب في الكونغرس الأميركي جيسون كرو قد صرّح مؤخراً بأنّ شكل الحروب سيتغيّر من نطاق السلاح التقليدي الى حرب المختبرات، والتي يمكن من خلالها التطهير العرقي بدون ترحيل الناس، فهذا مؤشر حيوي على الشكل الجديد لما يمكن أن يشهده أيّ صراع دولي مع الولايات المتحدة الأميركية على الساحة العسكرية، وتباعاً تأزيم الاقتصادات المناوئة للمعسكر الغربي والتي ستزيد من حدة التأرجح المالي الهام لدعم اقتصادات الحرب بكلّ أشكالها في المنطقة، فالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قد قال في 18 كانون الثاني الحالي إنّ النسخة الثالثة من العقوبات الأميركية في المنطقة ستكون بتشديد الحصار كما حصل في سورية، بعد انهيار مدوّ لليرة اللبنانية في مستوى لم يحصل سابقاً على الإطلاق، حيث يؤدّي المشهد اللبناني الدور المساند عبر فراغ رئاسي لم تنجح جلسات مجلس النواب في إنهائه بعد في جعل الرحى الأميركية فاعلة في التأثير بالمشهد اللبناني بكلّ مستوياته السياسية والإقتصادية…
كما أنّ القراءة الأميركية الجديدة للساحة السورية بدأت تأخذ مفاعليها القلقة بعد التقارب بين أنقرة ودمشق وظهور فرص اقتصادية فاعلة في مشهد الساحتين عبر التأثيرات الإيجابية في قطاعات كبيرة تفرضها الجغرافيا المتلاصقة لتركيا بسورية في تعزيز قطاع النقل التجاري والتبادل المصرفي وتجارة الترانزيت والتحويلات التجارية وقطاع الاستثمارات وما يمكن أن يمتدّ لحركة واعدة يكون مسارها صالحاً لطريق البضائع الخليجية نحو أوروبا في شكل قد يتخذ منحى تصاعدياً في تخفيف التشدد نحو سورية كمعبر اقتصادي هام للسوق الخليجية، وهي مسألة كانت في صلب ما شملته زيارة وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن الأخيرة بعد فشلها في قطع العلاقات الإماراتية والسعودية مع روسيا والصين وظهور البترويوان الذي بدأ بتطهير البترودولار في مناطق الخليج وأفريقيا والوسط الآسيوي بشكل يهدّد بزيادة التضخم في الدول الغربية وفقدان لسيطرة الدولار الأميركي كعملة أحادية القطب على المستوى الإقتصادي الدولي.
فالتقارب السوري التركي الذي يحصل بهدوء نتيجة خسارة أنقرة لرهاناتها الجيوسياسية يعمل كمقض لمضجع واشنطن في شرق المتوسط، ويتخذ شكلاً دراماتيكياً لزيادة التراجع الأميركي في المنطقة التي تحكم فيها روسيا الأغلبية الإقتصادية، حيث يُشكل صعود البترويوان حيزّين هامين للاقتصاد الغربي بالعموم في كونه قد يشكل حافزاً كبيراً لإعادة هيكلة مستجدات الاقتصاد الغربي في مقدرات سوق الطاقة العالمي والتعاملات المالية بتجارة النفط، فضلاً عن زيادة ملموسة في إنتاج البترول الصخري الذي تعمل عليه الولايات المتحدة لتعديل الاقتصاد الداخلي بعد الحرب في أوكرانيا ولجوء الدول الأوروبية والولايات المتحدة للوقود الأحفوري الخطر، فقد نبهت صحيفة «فانيشنال تايمز» في عددها الصادر في 17 كانون الثاني الجاري من أن مصير الدولار بات على المحك في استراتيجية السيطرة، وأنّ صعود البترويوان سيشكل «خسوفاً» حقيقياً للدولار، لذلك لا بدّ من زيادة إنتاج النفط الصخري للمحافظة على موقع الدولار عالمياً، وهو ما يشكل بدوره بنك إشارات تقرّها واشنطن بقلق بالغ خصوصاً بعد القراءات الخليجية الأخيرة للنفوذ الأميركي في المنطقة وخصوصاً بعدم القدرة الأميركية في الاستراتيجية الجديدة على قدرة تحمّل نفقات توزع القواعد العسكرية في الخليج كمعيار لضمان أمن «الحلفاء» أو حتى المحافظة على شكل مستقرّ للفاعلية الأميركية في المنطقة الخليجية بعد التقارب الخليجي الجديد مع موسكو والصين، فهو شكل جديد من تنوع الشراكات الخليجية مع الإقتصادات الدولية الكبرى ربما يغيّر رسم خارطة العلاقات كولايات متحدة طارئة وخليج الفارسي جديد التوجه…