استقلال أوروبا الأمني.. نتيجة حتمية لحرب أوكرانيا؟
وسام إسماعيل
يمكن تسخيف الرؤية الغربية التي ترى في ما يجري في أوكرانيا محاولة توسعية روسية على حساب دولة مستقلة؛ فإعلان ضم لوغانسك ودونيتسك لم يكن غاية روسية، إذ إنه لم يحصل عام 2014 بالتوازي مع ضم شبه جزيرة القرم وعزل يانكوفيتش.
بعد نحو سنة على انطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا، يمكن القول إنَّ المعادلة الأمنية التي كانت سائدة في أوروبا لن تبقى صالحة في المستقبل القريب؛ فإذا كان من الممكن اعتبار هذا الأمر خلاصةً منطقيةً للخطاب الروسي الممنهج الذي وضع ضمن الأهداف الأساسية للعملية إبعاد حلف الناتو عن حدوده على أقل تقدير، فإن الثابت هو أن الهدف الإستراتيجي الأساسي من هذه الحرب المكلفة روسياً لن يكون أقل من إنهاء مفاعيل هذا الحلف في القارة الأوروبية انطلاقاً مما يعتبره خطراً لا يمكن للقارة تحمّله بعد اليوم.
إنَّ تحليل الرؤية الروسية للعملية في أوكرانيا يظهر قناعة تفترض حرباً مصيرية تستهدف الدفاع عن السيادة والقومية في وجه حلف شمال الأطلسي الطامح منذ نشأته إلى تكريس مفهوم الحدود الشفافة، بحيث يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تتدخَّل من خلاله في دول القارة الأوروبية والعالم وفقاً لمصالحها، بعيداً من أي اعتبار يتعلَّق بمصالح الدول المعنية.
وبناء عليه، يمكن تسخيف الرؤية الغربية التي ترى في ما يجري في أوكرانيا محاولة توسعية روسية على حساب دولة مستقلة؛ فإعلان ضم لوغانسك ودونيتسك لم يكن غاية روسية، إذ إنه لم يحصل عام 2014 بالتوازي مع ضم شبه جزيرة القرم وعزل يانكوفيتش.
وانطلاقاً من الرؤية الأميركية التي استندت في أوروبا إلى مفهوم جغرافيا السيطرة من دون إمبراطورية، بحسب بيتر تايلور، فقد أسقطت من قاموسها الجيوسياسي كل ما يتعلق بالجغرافيا والحدود، وعملت على تكريس رؤية عالمية تشرع إمكانية وصولها إلى أي منطقة أو دولة من دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية أو شن حروب تقليدية كتلك التي طبعت بدايات القرن العشرين.
انطلقت الإدارة الأميركية في تسويقها لهذه الرؤية منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة، إذ إنَّ أدبيات العالم الغربي ظهَّرت الصراع مع الاتحاد السوفياتي على أنّه مواجهة مصيرية بين العالم الحر المتمدّن والمرتكز في أيديولوجيته على الليبرالية والحرية والعالم الشيوعي المستبد المرتكز على التسلط والهيمنة. وفي تلك الفترة، لم تكن الدول الأوروبية في موقع القادر على بناء حيثية أمنية وإستراتيجية مستقلة عن الأداة الأميركية المتمثّلة بحلف الناتو.
على هذا الأساس، انتظمت الدول الغربية خلف تلك الرؤية، ولم تتمكَّن المحاولات الفردية التي قادتها فرنسا على وجه الخصوص من ابتكار إطار يراعي خصوصيات المشروع الأوروبي الذي أسَّس له إعلان روبرت شومان عام 1950.
خلال فترة التسعينيات ومطلع القرن العشرين، استطاعت الولايات المتحدة الأميركية المحافظة على مكتسباتها الجيوسياسية في القارة الأوروبية، مستفيدةً من الارتباط العضوي لبعض الدول الأوروبية الغربية في حلف الناتو، ومن تدافع دول أوروبا الشرقية للانضمام إلى الحلف نتيجة افتقاد الصيغة الأوروبية للجاذبية كإطار وحيد مطمئِن لهواجسهم.
وخلال أكثر من 30 عاماً، تمكّن حلف الناتو من المحافظة على مبرر وجوده، إذ إنَّ الولايات المتحدة الأميركية سوَّقت للحاجة إليه لأسباب تتعلَّق بضرورة العمل على ضمان أوراسيا مستقرة لا تهدّدها أي احتمالات غير محسوبة.
وفي الإطار نفسه، حاولت الولايات المتحدة طمأنة شركائها الأوروبيين من خلال محاولة توفير مناخ أمني أوروبي يساهم في تمتين العلاقات بين ضفتي الأطلسي، بما يضمن ارتباطاً أوروبياً عضوياً بالإستراتيجيات الأميركية.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد نجحت في تكريس هذا الواقع لفترة من الزمن، فإنَّ جملة من المتغيّرات فرضت نفسها، بحيث دفعت الدول الأوروبية الأساسية، فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، إلى البحث عن إطار أمني مستقلّ يراعي المتطلبات الأوروبية بالدرجة الأولى، ولا يكون تابعاً لتقديرات الناتو الأميركية.
وبعدما شكَّل الحلف طيلة فترة الحرب الباردة صمّام أمان للدول الأوروبية في وجه الخطر الشيوعي الساعي للتمدد نحو غرب القارة، لم يستطع أن يكرس فرضية جديدة تضمن التزام الدول الأوروبية بإطاره التنظيمي، إذ إن الأهداف المستجدة التي سوَّقت لها إستراتيجيته لعالم ما بعد الحرب الباردة لم تكن جاذبة لبعض أعضائه.
ذريعة حماية مصالح أعضائه في أصقاع الأرض وإعلانه الحرب على الإرهاب، وفق منظور تبيَّن من خلال الحرب على العراق وأفغانستان أنه راديكالي واستنسابي، لم يقطع الطريق على محاولات بناء إطار أمني أوروبي مستقل. وإذا عدنا إلى عمليات حلف الناتو العسكرية أو مواقفه السياسية في فترة ما بعد الحرب الباردة، فقد كانت تفتقد إجماع دوله الأعضاء.
لقد غابت فرنسا وألمانيا عن الحلف في حرب العراق، ولم تنجح كلّ المحاولات الأميركيّة في إظهار أن التدخل في يوغسلافيا يعبر عن وحدة الموقف بين ضفتي الأطلسي، إذ ألقت الولايات المتحدة الأميركية اللوم على فرنسا وبريطانيا في موضوع فشل مفاوضات رامبوييه وعدم قدرة الدول الأوروبية على صيانة الأمن الأوروبي بنحو مستقل عن حلف الناتو.
ولكن ما كان لافتاً في الفترة الأخيرة أنَّ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مسَّت المواطن الأوروبي والأمن السياسي والمجتمعي لدول القارة الأوروبية بشدة؛ ففي تحليل مدى مواءمة التوجه الأطلسي نحو شرق القارة على حدود روسيا مع التوجه الأوروبي، تبرز إشكالية التعارض الإستراتيجي بين الطرفين، إذ إنَّ العلاقات بين الطرفين الروسي والأوروبي تطورت بفعل المسعى المتبادل لتحقيق نوع من التكامل البنيوي على مستويات متعددة، أهمها الأمني والطاقوي. في هذا الإطار، لم تتوانَ الولايات المتحدة عن توجيه التحذيرات من التعاون بين الطرفين، وخصوصاً في مجال أمن الطاقة، إذ يبرز "نورد ستريم" كمثال واضح.
لم يكن المسعى الثنائي الألماني والفرنسي لتحقيق نقلة على مستوى استقلالية الأمن الأوروبي مقبولاً لدى الولايات المتحدة الأميركية التي لم تتقبل أي مسعى استقلالي في غرب أوروبا. وفي لحظة اتخاذ روسيا قرارها بشن عملية عسكرية في أوكرانيا، قطعت الولايات المتحدة الأميركية الطريق على أي مسعى أوروبي لحل دبلوماسي لهذه الأزمة، وبدأت بحشد الدعم الأوروبي والغربي بالتوازي مع ممارسة ضغوط على الدول الساعية للحوار.
يمكن القول إنَّ الولايات المتحدة الأميركية نجحت في تحقيق تماسك أطلسي شبه استثنائي في مواجهة روسيا، إذ إن دولاً كفرنسا وألمانيا لم تتمكن من التفلّت من إلزامية تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، وإن كان بمستويات متفاوتة وبطرق مباشرة أو غير مباشرة.
ولكنَّ واقع التزام هذه الدول بالمسار الأطلسي، لناحية التكافل والتضامن خلف أوكرانيا، إذ يمكن إدراج الاتفاق الذي تم توقيعه منذ أيام بين الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي في هذا الإطار، لن يخفي حقيقة الواقع الأمني المستجد في أوروبا لجهة عدم إمكانية إقناع روسيا بتقبل حلف شمال الأطلسي على حدودها أو العودة إلى الترتيبات الأمنية التي كانت سائدة.
وبناء عليه، ستواجه الدول الأوروبية حتمية التأقلم مع الواقع المستجد من دون انتظار نتائج العملية العسكرية الروسية، فقرار موسكو بالاستمرار في عمليتها لم يعد مرتبطاً بمسار المعركة على الأراضي الأوكرانية، إنما بما ستستقر عليه التوازنات الدولية في ما يرتبط بالأخذ بالهواجس الروسية لناحية إلغاء تأثيرات حلف الناتو في القارة الأوروبية. ولتأكيد واقعية هذه الحتمية، يمكن العودة إلى ما قاله ماكرون في الولايات المتحدة عن بدء البحث عن إطار أمني أوروبي مطمئن لروسيا.