عام 2023: أوروبا كبش أميركا على مذبح أوكرانيا !
د. عدنان منصور
منذ أن حركت واشنطن وأجّجت الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2014، وأطاحت بحكومة يانوكوفيتش، وأتت بصنيعتها الممثل الكوميدي فولوديمير زيلينسكي الى الحكم، بدأت واشنطن تنسج معه سياسات عدائية مكشوفة ضدّ روسيا، مستفزة في عمق الأمن القومي لروسيا.
لم يكن زيلينسكي ليتحرك من تلقاء نفسه، ولم تكن أوروبا في ما بعد ترى نفسها حرة في سياساتها، بل كانت واشنطن تؤثر على قرارها السيادي، وتضغط عليها وتجرّها الى الموقع الذي تريده لها، وهو مواجهة روسيا.
استفزاز زيلينسكي المتعمّد وضع روسيا أمام أمر واقع، دفعها إلى استئصال الجماعات النازية المتطرفة في أوكرانيا، وبالذات في إقليم دونباسك، وحماية الناطقين بالروسية، وصون الأمن القومي الروسي، من خلال عملية جراحية عسكرية واسعة النطاق، بدأت يوم 24 شباط 2021.
قرار روسيا كان حاسماً وحازماً عندما قامت بعملياتها العسكرية، وهو قرار غير قابل للمساومة قبل تحقيق أهدافه المعلنة مهما كلف ذلك من ثمن.
منذ بدء العمليات العسكرية الروسية، لم تتوقف أميركا عن تقديم الدعم المالي والعسكري والإعلامي، والاستخباري، واللوجستي لزيلينسكي، بل زجّت الاتحاد الأوروبي ليكون رأس الحربة في حرب استنزاف تخوضها أوروبا بالنيابة عنها.
بعد عشرة أشهر من اندلاع العمليات العسكرية، ما الذي جنته أوروبا من وقوفها الى جانب أوكرانيا في الحرب؟! وما هو الحصاد الذي حققته بعد تقديم كافة وسائل الدعم لنظام زيلينسكي، وفرض العقوبات الاقتصادية، والتجارية، والمالية،
وإغلاق الأجواء الجوية، وفرض الحظر على الواردات الصناعية والطاقوية الروسية، وعلى كيانات ومسؤولين وأفراد روس؟!
لصالح من كان الضغط الأميركي على ألمانيا، لمنع تشغيل خط الغاز نورد ستريم 2 الذي أنجز في شهر تشرين الثاني عام 2021 والذي كان سيزوّد ألمانيا بـ 55 مليار م3 من الغاز سنوياً؟! ألم يكن وقف الخط بداية لصراع روسي أوروبي أرادته واشنطن كي تمنع ايّ تعزيز اقتصادي، أو تجاري، أو مالي، أو استراتيجي بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي التي تتزوّد بالغاز والنفط الروسي، وبالذات ألمانيا نظراً لأهميتها في أوروبا. إذ انّ ايّ تعاون استراتيجي اقتصادي عميق بين روسيا وألمانيا، او بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي كافة، سيحدّ من الدور والتاثير، والنفوذ الأميركي في القارة. كما انّ أيّ تعاون مستقبلي عميق بينهما سيحدّ من اندفاع الحلف الأطلسي ضدّ موسكو. وينتفي بعد ذلك مبرّر بقائه، وهذا ما لا تريده الولايات المتحدة، التي تعمّدت إطالة أمد حرب الاستنزاف ضدّ روسيا، كي تجبرها على التراجع، والرضوخ للمطالب الأميركية ـ الأوروبية، والقبول بشروطهما.
لم تكن حسابات واشنطن دقيقة، إذ انّ النفس الروسي عميق، وانّ الانهيار الاقتصادي لروسيا الذي كانت تضعه أميركا في حسابها وتنتظره لم يحصل. فكانت أوروبا كبش أميركا الذي سيق الى مذبح أوكرانيا.
هل تعتقد أوروبا، انّ حرب الاستنزاف التي تخوضها ضدّ موسكو، بالوكالة عن واشنطن، ستفيد على المدى المتوسط والبعيد، اقتصادات دولها ورفاهية شعوبها؟! وهل تتصوّر انّ اندفاعها الأرعن لدعم زيلينسكي سيجبر روسيا على التراجع، ويدفع بشعبها الى التحرك والانتفاض على النظام، ورفض العمليات العسكرية في أوكرانيا؟!
روسيا تخوض اليوم حرباً شرسة في أوكرانيا ضدّ حلف بأكمله، تجاوزت نفقاته العسكرية فيها عن مائة مليار دولار، في حين انّ موازنة روسيا العسكرية لعام 2022 لم تتجاوز الـ 67 مليار دولار. واشنطن دفعت حتى الآن 45 مليار دولار لأوكرانيا، وزادت ميزانيتها العسكرية لعام 2023 نحو 50 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا في حربها.
المساعدات الهائلة التي قدّمتها أميركا وأوروبا لأوكرانيا، لم تجنب الشعوب الأوروبية من ان تعيش أوضاعاً معيشية صعبة للغاية، والتي تشهد نقصاً حاداً في إمدادات الطاقة، وتضخماً مالياً لم تعرفه منذ نصف قرن.
ألا تدرك أوروبا، أنّ المستفيد الوحيد من الحرب في أوكرانيا، هي الولايات المتحدة التي تدير اللعبة من خلف الأطلسي؟ فما الذي حققه الاتحاد الأوروبي من إنجازات «عظيمة»، بجعل نفسه جسراً تعبر عليه واشنطن للوصول الى المجال الحيوي لروسيا ولأمنها القومي، وتحقيق أهدافها، مهما كان الثمن؟!
لبيانات الأوروبية تشير الى انّ شهر تشرين الأول الفائت، شهد ارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 41%. أما التضخم فقد ضرب دول الاتحاد الأوروبي، الذي بلغت نسبته 22.5 % في استونيا،
و22.1 % في لتوانيا، و21.9 % في هنغاريا، و21.7 % في لتونيا. كما انّ اقتصادات دول قوية كألمانيا وإيطاليا، بلغت نسبة التضخم فيها على التوالي 11.6 % و12.6 %. وهذا عدا الارتفاع في اسعار الحبوب، والنفط الخام والغاز الذي ارتفع بنسبة 350 %.
رئيسة البنك المركزي الأوروبي BCEكريستين لاغارد، رأت في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا «صدمة عرض»، التي قلصت النمو، وعمّقت التضخم في أوروبا إلذي بلغ في شهر تشرين الاول الفائت 11.5 % وهو معدل لم تشهد مثله منذ 50 سنة.
رغم انّ روسيا المعنية الأولى، جراء عملياتها العسكرية في أوكرانيا، فإنّ التضخم فيها بلغ 14 % عام 2022. وفي عام 2023، ستكون نسبة التضخم بحدود 6.8 % وفقا لـOCDE منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية، او 5.9 % وفقاً لتقديرات البنك الدولي، أو 5 % وفقاً لصندوق النقد الدولي. كما سجل الاقتصاد الروسي نمواً بنسبة 3.4 %، متراجعاً عما كان عليه عام 2021، لكنه تراجع أقلّ مما توقعه صندوق النقد الدولي، الذي أعلن أنّ وقف إمداد الغاز الروسي، سيؤدّي الى نقص في استهلاك الغاز لبعض دول وسط أوروبا، يصل الى 40 %، في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار الغاز في أوروبا لتصل الى 2400 دولار لكلّ ألف متر مكعب لأول مرة منذ شهر آذار الماضي…
بعد كلّ الذي جرى خلال العام 2022، هل ستغيّر أوروبا نهجها وسلوكها حيال روسيا، وتتحرر من ضغط ونفوذ الكاوبوي الأميركي، وتحث أوكرانيا على الدخول في مفاوضات مع روسيا لوقف نزيف الحرب، أم ستظلّ أكثر التصاقاً وطاعة لواشنطن! وهل ستقرّ أوروبا أخيراً انّ نفس صمود روسيا أطول بكثير من نفس الاتحاد الأوروبي، وهي التي اندحرت على أبوابها دول، وقادة، وجيوش!
متى سيدرك زيلينسكي، خيال المآتة الأميركي الذي وضعته واشنطن في وجه روسيا، انّ مصالح أميركا فوق كلّ اعتبار، وفوق مصالحه ومصالح أوكرانيا وأوروبا على السواء.
عام 2023، يحمل في طيات السياسة الأميركية حيال أوكرانيا وروسيا ما لا يبشر بالخير، طالما انّ واشنطن مُصرّة على خوض حرب استنزاف طويلة شرسة ضدّ روسيا وبالواسطة، لكن الى متى؟! وهل ستقبل موسكو بإطالة حرب الاستنزاف الشاملة ضدها، دون ان يكون لها في نهاية الأمر القرار السياسي والعسكري الحاسم الذي يضع حداً للانغماس الأوروبي في الشأن الروسي؟!
ما كانت الولايات المتحدة لتستطيع ان تخوض حرب استنزاف طويلة ضدّ روسيا لولا حصان طروادة الأوروبي الذي جعل نفسه مطية للكاوبوي الأميركي يفعل به ما يريد. لذلك، يبقى
على الاتحاد الأوروبي ان يضع حداً للمأساة، ويدرك في نهاية المطاف، انّ أميركا هي الرابح والمستفيد الوحيد الذي حصدت منه ما تريد. وحتى لا تكون أوروبا عام 2023 أكثر خنوعاً لواشنطن، ومن ثم كبش تضحية على مذبح مصالح الولايات المتحدة!