حملة كردية واسعة لمنع الهجوم التركي: "قسد" قلقة من "خيانة" أميركية
جو غانم
ثمة تخوّف وقلق كرديّ حقيقيّ من تخلِّ أميركيّ أو "خيانة" تودي بـ"قسد" وأحلامها، وخصوصاً بعد تذكير قائدها مظلوم عبدي بما سمّاه "خيانة ترامب" خلال الهجوم التركيّ (نبع السلام) عام 2019.
في الوقت الَّذي كان المبعوث الأميركيّ لشؤون شمال شرقيّ سوريا، نيكولاس كرينغر، يُحذّر تركيا من مغبّة أي هجوم عسكري على مناطق شمال شرقيّ سوريا، ويؤكّد أنّ واشنطن لم تمنح أنقرة الضوء الأخضر للقيام بعملية كهذه، كان قائد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مظلوم عبدي، يتوجّه بخطابٍ إلى الدّاخل الأميركيّ يطلب فيه من الأميركيين "عدم نسيان" الكرد أو التخلّي عنهم، وذلك من خلال مقالٍ نشره في صحيفة "واشنطن بوست"، ذكّر فيه بأنّ "قسد" هي "الحليف الوحيد" والأوثق للولايات المتحدة الأميركية في سوريا، وأنّ أيّ عملية عسكرية تركيّة ضد "قسد" ستُشكّل كارثة لجهود واشنطن في "محاربة الإرهاب"، وخصوصاً في الحرب ضد تنظيم "داعش" الإرهابيّ.
وفي سياق الحملة الإعلامية الكردية ذاتها، أجرى مظلوم عبدي لقاءً مع صحيفة عربية خليجية، وأطلق تصريحات متعدّدة في وسائل إعلام كردية محليّة، وركّز في أحاديثه كلّها خلال الأيام الماضية على أمرين أساسيين، أولهما أهمية "الشراكة" الأميركية - الكردية في "الحرب على الإرهاب"، التي أثمرت، في رأيه، هزيمة تنظيم "داعش" الإرهابيّ الذي شكّل خطراً على المنطقة والعالم، وبالتالي خطورة تخلّي الأميركيين والحكومات الغربية عن شركائهم الكرد في هذه اللحظة العصيبة التي تُهدّد فيها أنقرة بالهجوم الشامل عليهم وكسر قوتهم العسكريّة.
هذا الأمر يدلّ على وجود تخوّف وقلق كرديّ حقيقيّ من تخلِّ أميركيّ أو "خيانة" تودي بـ"قسد" وأحلامها، وخصوصاً أنّ عبدي ذكّر بما سمّاه "خيانة ترامب" خلال الهجوم التركيّ (نبع السلام) عام 2019، معتبراً أنّ إدارة الرئيس الأميركيّ جو بايدن لا تزال على موقفها الرافض أي عملية عسكرية تركية جديدة.
وفي الوقت نفسه، أكّد عبدي أنّ الأميركيين لم يقدّموا أيّ شيء عمليّ حتى الآن في هذا الشأن، إذ اقتصر موقفهم على التصريحات الصحافية التي تصدر عن البيت الأبيض وعن بعض المسؤولين الأميركيين الذين يلتقون معهم، مع وجود "مبادرة أميركية" مطروحة أمام أنقرة تقضي بوصل المناطق التي تسيطر عليها المجموعات المسلّحة العاملة تحت إشراف تركيا ورعايتها في الشمال السوريّ بمناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، وتنمية هذه المناطق ودعمها اقتصاديّاً وسياسيّاً، وهي المبادرة التي وافق عليها الكرد، ولكن لم تعرها أنقرة أيّ اهتمام يُذكَر.
وإذ أكّد عبدي أنّ الأميركيين لم يفعلوا أيّ شيء على الأرض حتى الآن، رأى أنّ ضغوطاً أميركية قوية مورست على أنقرة في الأيام الأخيرة، أدّت إلى تخفيف حدّة القصف التركيّ، وإنْ كان قد أضاف أسباباً أخرى دفعت أنقرة إلى خفض وتيرة هجماتها الجوية، وهي الاستعدادات الكردية المكثفة لمواجهة العدوان وعدم تحقيق تلك الهجمات أهدافها المرجوّة على الأرض.
ولكنَّ هذا الأمر هو استعراض معنويّ في الحقيقة، إذ إنّ الرفض السوريّ لتطوير العلاقات مع أنقرة قبل أن تنسحب من الأراضي التي تحتلها في الشمال، والتعزيزات العسكرية السورية على الجبهات في الشمال والشرق، والمساعي الروسية، وحرص واشنطن على مصالحها التي ستتقوّض في الشرق السوري إذا ما اشتعلت المنطقة، والتي تتمثّل بتوقّف عمليات نهبها للثروات السورية، وخشيتها على سلامة جنودها، التي دفعتها إلى تكثيف اتّصالاتها مع الأتراك وحثّهم على عدم البدء بتلك العملية ومحاولة التوصل إلى حلّ سياسيّ مع الكرد يضمن الأمن القومي التركي من جهة، ويضمن بقاء واشنطن وحلفائها في "قسد" على وضعهم الحالي من جهة أخرى، دفع كلّه أنقرة إلى التخفيف من حدّة الهجمات وعدم الشروع في العملية، أملاً بتحقيق أهداف ومكاسب حقيقية من دون خسائر بشرية وعسكرية و"انتخابية".
أمّا الأمر الثاني الذي ركّز عليه عبدي في جلّ أحاديثه ومقابلاته الأخيرة، فهو محاولة حشد كل القوى المحلية والإقليمية والعالمية لمنع حدوث العملية العسكرية التركية البريّة، وإيجاد تسوية أو حلّ سياسيّ يضمن للكرد بقاء الأمر الواقع على حاله.
وفي هذا السياق، حاول عبدي إرضاء جميع الأطراف، بمن فيهم أنقرة، حين تحدّث عن عدم تشكيل "قوات سوريا الديمقراطية" أيّ خطر على الأمن القوميّ التركيّ وعن ابتعادها عن الحدود، وأكد أنّ القوات الكردية الباقية في البلدات والقرى قرب الحدود هي قوات أمن داخليّ (الأشايس)، وأنها لا تقوم بأيّ استفزازات من أيّ نوع، بل إن مهمتها الوحيدة هي تحقيق "الأمن الذاتيّ" للمواطنين في تلك القرى والبلدات.
وشدّد عبدي على أنّ الكرد منفتحون على الحوار مع دمشق، وملتزمون "وحدة الأراضي السوريّة" والمحافظة على رموزها، وأنّ "قوات سوريا الديمقراطية" يمكن أن تُشكّل جزءاً من المنظومة الدفاعية للجيش السوريّ، بعد منحها بعض الخصوصية والامتيازات بشكل دستوريّ، وحضّ الجيش العربي السوري على القتال جنباً إلى جنب مع "قسد" والتصدّي معاً لأيّ عدوان تركيّ محتمل.
وأكّد ذهاب وفود كردية إلى دمشق، واستعداده للذهاب إلى العاصمة عندما "تنضج ظروف الحلّ"، وثمّن موقف الرئيس السوري بشار الأسد الذي رفض لقاء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، رغم إبداء الأخير استعداده لعقد مثل هذا اللقاء في أكثر من مناسبة عن طريق الوسطاء الروس والإيرانيين.
وتطرّق قائد "قوات سوريا الديمقراطية" إلى اللقاء الأخير الذي جمعه بقائد القوات الروسية العاملة في سوريا، الجنرال ألكسندر تشايكو، وهو ثاني لقاء بين الطرفين منذ التصعيد التركي في 20 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت.
واعتبر عبدي أنّ روسيا تقف "موقف المحايد" بين الكرد وأنقرة حتى اللحظة، وأنّ موسكو تسعى في المقام الأول لإدخال "اتفاق سوتشي 2019" مسار التطبيق التام. وهنا، يعتبر عبدي أنّ الكرد وفوا بجميع التزاماتهم الخاصة بهذا الاتفاق، وأن الأتراك هم الذين واظبوا على خرقه منذ ذلك الحين.
وفي ما يخصّ اللقاء الروسيّ - الكرديّ الأخير، وبينما أعاد الجنرال الروسيّ الطلب من الكرد تسليم مواقعهم إلى الجيش السوريّ، تفادياً لعملية عسكرية تركية، ولإرساء حلّ يعيد الكرد إلى مكانهم الطبيعيّ تحت مظلة الدولة السوريّة، تصرّ القيادات السياسية والعسكريّة الكردية على عدم وجود قوات عسكرية من "قسد" قرب الحدود أو في تل رفعت ومنبج وعين العرب ومناطق حدودية في أرياف حلب والرقة والحسكة، وأنّ القوى الأمنية الكردية الموجودة هناك هي "قوى أهلية" في الأساس، وهدفها الوحيد حماية المواطنين الكرد في تلك المناطق.
وترفض القيادات الكردية سحب تلك القوى المسلحة والموظفين الكرد العاملين هناك، لأنّ ذلك يعني خسارة إدارتها المدنية وسيطرتها على المؤسسات في تلك المدن والبلدات، فيما تصرّ دمشق على إعادة جميع المؤسسات السورية إلى كنف الدولة، ما يعني أنّ الجهود الروسيّة لن تصل إلى نتيجة تُذكر، وخصوصاً أنّ القيادات الكردية تعود في كلّ مرة إلى الاستسلام للوعود الأميركية بالحماية بعدما توشك أن تتفق مع الروس، وبالتالي مع دمشق.
من جهة أخرى، عاد المسؤولون الأتراك إلى الحديث بكثافة عن العملية العسكرية المحتملة، إذ أكّد الرئيس التركي يوم السبت الماضي أنّ بلاده مصرّة على إقامة "شريط أمنيّ" على طول الحدود الجنوبية لتركيا، وأنها لن تتراجع عن تحقيق هدف "منع الاعتداءات الإرهابية" الآتية من الشمال والشرق السوريين.
ودعا وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، واشنطن إلى "وقف دعم الإرهابيين"، وقال إنّ بلاده لن تسمح بإقامة "ممرّ إرهابي" قرب الحدود التركية الجنوبية. وتشير التصريحات التركية الكثيرة والمتلاحقة في الأيام الأخيرة إلى نية أنقرة السيطرة على طول الشريط من إدلب إلى حدود محافظة الحسكة على الأقل، وقطع جميع الطرق على الكرد باتّجاه حلب ودير الزور والرقة، وحصارهم هناك، وهو ما تشير مصادر تركية إلى مدى أهميته العسكرية والسياسية بالنسبة إلى أنقرة في القضاء التام على القوة العسكرية الكردية، ومنع الدعم الخارجي لها، وفتح باب التفاوض مع دمشق وفق شروط جديدة يكون لأنقرة فيها أوراق قوة جديدة.
حتى الآن، تشير جميع المعطيات إلى احتمال بدء أنقرة بهذه العملية في أيّ لحظة، في حال لم يستجدّ أي حدث سياسيّ وميداني مهم تأتي به المبادرات الدولية والإقليمية، ونخصّ بالذكر هنا المساعي الروسية والأميركية.
من جهتها، تواصل دمشق تعزيز حشودها العسكرية في الشمال والشرق السوريين، إذ يتواصل تدفق قوات المشاة وكتائب المدفعية الثقيلة إلى أرياف حلب والرقة ودير الزور والحسكة، إضافة إلى استنفار تام على جبهة ريف اللاذقية، إذ قضت القوات السورية على مجموعة مسلحة في ريف منطقة كباني بعد كمين محكم يوم الخميس الفائت.
أتى ذلك في وقت أُعلِن من مصادر عديدة، ومنها مصادر تركية وروسية، رفض الرئيس بشار الأسد أي لقاء مع الرئيس التركيّ قبل أن تقوم أنقرة بخطوات تؤكّد شروعها في الانسحاب من الأراضي السورية التي تحتلها، وتوقف دعمها للمجموعات الإرهابية في الشمال واعتداءاتها على الأراضي السورية.
وفي هذا السياق، عبّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن هذه المواقف التي أبلغتها دمشق للوسيط الروسي، إذ أعلن في تصريحات صحافية له يوم الأربعاء 8 كانون الأول/ديسمبر وجوب أن يقوم كلّ "من يؤثّر في الأرض في سوريا" بالتحاور مع الرئيس الأسد وإدارته.
وقال لافروف إنّ موسكو اتفقت مع أنقرة على تحييد المجموعات المسلّحة التي ترفض التحاور مع دمشق عن المجموعات التي يمكن أن تدخل في أي تسوية محتملة، وفي هذا إشارة إلى اعتماد موسكو الشروط السورية الواضحة التي تتمثل بالإصرار على إخراج القوات التركية المحتلة واستعادة إدلب والشمال السوري، وضرب جميع القوى والفصائل التي تعادي الدولة السورية وتعتمد أجندات خارجية وخاصَّة.
لم تحد دمشق عن مسارها طوال السنوات الماضية، ولن تحيد، إذ تشير كل الخطوات العسكرية والسياسية التي انتهجها في الآونة الأخيرة إلى أنها ماضية في هذا الطريق، بصرف النظر عن أيّ تهديدات تركية أو مراوغات سياسية يرى إردوغان أنّ بإمكانه إغراءها بها من دون جدوى.