تركيا المفلسة تدفع بالسعودية نحو المجهول
حسام مطر
في ظل انكفاء داعش في المشهد العراقي، تقدم الجيش السوري في مجمل الحرب السورية، خروج أنصار الله من التهميش الى قلب المعادلة السياسية في اليمن، وصولاً الى احتمالات التسوية النووية الإيرانية - الأميركية، كانت السعودية أمام خيارين، خيار الإنفتاح على إيران لتشكيل إطار إقليمي يراعي مصالح البلدين كما حصل جزئياً في العراق، أو الإتجاه نحو مزيد من التشدّد عبر إعادة بناء وتدعيم جبهة موازية بالتعاون مع تركيا. يبدو أن الرياض قررت مجدداً الهروب إلى الأمام نحو الخيارات الأكثر فوضويةً مدفوعةً بتأثير المزاج الشخصي للنخبة الجديدة الحاكمة.
طوال الفترة الماضية تركزت الجهود التركية ومعهم الإخوان المسلمين على إخضاع السعودية لمنطق الهلع من إيران، وهذا ما برز مؤخراً بهاشتاغ جرى إطلاقه على تويتر بعنوان "جبهة خليجية عالمية لمواجهة الإرهاب الشيعي”، أي جبهة سعودية إخوانية تركيا لمواجهة محور المقاومة. يمكن من خلال متابعة الإعلام التابع لمحور تركيا تلمس الأدوات التي إستخدمت لجذب السعودية بعيداً من تسوية محتملة مع إيران: أولاً تسعير الشحن المذهبي (مثلاً هاشتاغ :الإرهاب الشيعي يقتلنا)، ثانياً التركيز على ما يجري في اليمن باعتباره هجوماً إيرانياً على المملكة من دون أي اعتبار للظروف الداخلية في ذلك البلد، ثالثاً، إبراز الأضرار المترتبة على السعودية من جراء علاقاتها مع النظام المصري سواء في الإستنزاف المالي للمملكة، ودفع مزيد من الإسلاميين الإخوانيين للتطرف، وكذلك الدفع بحماس لإعادة التواصل المكثف مع إيران للتفلت من الحصار المصري.
في الواقع يمكن تفهّم هذه الإستراتيجية التركية، إذ إن أردوغان يعاني ما يشبه العزلة الإقليمية، ويبدو مجرداً من أوراق القوة والتفاوض، ولا سيما في ظل دحر الأكراد لداعش في محيط عين العرب. المطلوب من تجديد هذا الحلف التقليدي، محاولة إشغال الفراغ الذي تتركه داعش في العراق وسوريا، وإلا سيستكمل محور المقاومة استعادة ما خسره أثناء صعود موجة داعش. ثانياً، تمتين جدار الكراهية المذهبية حول إيران، تحسّباً لتحررها من العقوبات الدولية في المرحلة المقبلة. ثالثاً، إعادة شحن الحرب السورية بمزيد من الموارد لإطالة أمدها. هذه القوى تراهن على كسب الوقت قدر المستطاع لحين الإنتخابات الأميركية المقبلة حيث من الممكن فوز الجمهوريين بما يؤدي الى عودة السياسات الأميركية المتشددة الى المنطقة.
إلا أن إزالة الشرخ التركي السعودي تعترضه عقبات عديدة، وإن كانت قابلة للتجاوز. أبرزها يخص الوضع المصري، إذ إن السعودية ليست في وارد التخلي عن الرئيس عبد الفتاح السيسي، بل جل ما يمكن أن تطلبه، أن يظهر قدراً من التسامح تجاه الإخوان المسلمين. هنا يبدو الإختلاف بين ما يمكن أن تقدمه السعودية والسيسي للإخوان، وبين ما يطمح الإخوان للحصول عليه. ثانياً، لا تطابق سعودي - مصري في تقدير الموقف الإقليمي، مصر ترى الإرهاب بمثابة الأولية وليس مواجهة طهران. ثالثاً، الحذر والريبة حاكمة في العلاقات السعودية - التركية، ولذا سيبقى أي التقاء ظرفياً وهشّاً وعرضة للتفسخ بشكل دائم. رابعاً، حتى بظل انعقاد هذا التحالف ما هي فعلياً خياراته الميدانية؟ إذ إن هذه الدول تحالفت لسنوات في الملفين العراقي والسوري ونفذت من جعبتها المفاجأت، فما الذي سيتغير الآن؟
يمكن للسعودية أن تسلك مساراً مختلفاً وأكثر عقلانية من خلال استقراء التجربة العراقية. لا يعارض الإيرانيون دوراً سعودياً في العراق، كما برز في قضية المالكي، ولا حتى رئيس الحكومة العراقية يسعى إلى الصدام مع السعودييين أو الأتراك. يمكن لحوار إيراني - سعودي أن ينتج على الاقل تفاهمات في اليمن والعراق ولبنان، إذا ما غادر السعوديون فكرة "إما كل شيء أو لا شيء”، وحاولوا مقاربة المشهد الإقليمي أبعد من المذاهب والطوائف نحو المصالح المشتركة. على السعوديين التفكر قليلاً في معنى أن تدفع أنقرة بهم للصدام مع إيران، في وقت تنسج أنقرة أفضل العلاقات الإقتصادية مع طهران.
إلا إنه من ناحية محور المقاومة يجري التحسب للأسوأ في ظل إنطلاق عمليات التدريب الأميركية في الآردن وتركيا، الحدث القديم الجديد. في ظل التقدم الواسع للجيش العراقي والحشد الشعبي على داعش مع بدايات معركة تكريت التي ستمثل بداية النهاية لداعش في العراق؛ فإنّ هذا المحور سيكون قادراً في الأشهر القليلة المقبلة على تعزيز خطوطه في سوريا لتثبيت إنجازات العام الأخير وحسم نقاط حيوية سواء في مناطق حدودية أو بعض الجيوب في ريف دمشق.
ربما لا نصيحة أفضل في هذه الأيام من تلك التي أوردها مترنيخ (أو مترنيش) وزير خارجية الإمبراطورية النمساوية، في رسالة وجهها إلى القائد العام للجيوش النمساوية في ظل الحرب مع نابليون، ويقول فيها: " لنتجنب زهوة النصر قبل إنقضاء أيام على المعركة، ولننكر إنكسارنا قبل مضي أربعة أيام على وقوعه... لتكن الحربة دائماً في يدنا اليمنى وغصن الزيتون في اليسرى، ولنكن على إستعداد للتفاوض من دون أن نتوقف عن التقدم أثناء المفاوضات”.