التضخم المالي وتأثيراته في تفكيك المنظومة الفيدرالية الأميركية
عبير بسّام
لا يمكن فصل التضخم المالي في الولايات المتحدة عن الأحداث التي يشهدها العالم، وأهمها صراع الجبابرة الأميركي - الصيني من جهة، والحرب الأميركية - الروسية في أوكرانيا من جهة أخرى.
فالحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، وتخوضها اليوم، أوقعتها في أزمات اقتصادية متكررة انعكست على العالم بسبب التعاملات المالية المعتمدة على الدولار الأميركي، والذي تتحكم أميركا من خلاله بالاقتصاد العالمي عبر فرض العقوبات على منافسيها وأعدائها ومناوئيها، على حد سواء.
لكن سلاح الدولار يمكن أن ينقلب على الولايات المتحدة في أية لحظة تقرر فيها الدول الكبرى الصاعدة التخلي فيها عن التعامل بالورقة الخضراء. عندها ستنكشف ورقة التوت التي تستر عورة هذا الاقتصاد، الذي يعتمد على ورقة لا تساوي سوى سنتين او ثلاثة. وكشف ستر العملة الأميركية لن يحميها حينئذ من الانهيارات المتلاحقة والمتمثلة بانهيار بنيانها كدولة والذي سيتساقط "كحجارة الدومينو".
لقد تجاوز حجم الدين الأميركي الـ 30 تريليوناً، وتضاعفت أسعار السلع في بلاد "العم سام"، ويمكن قراءة ذلك مبدئياً من خلال تضاعف سعر شريان الحياة الأميركية، ألا وهو البنزين.
منذ بداية القرن العشرين، حصلت انهيارات عدة في الاقتصاد الأميركي، كان أولها في العام 2003، بعد احتلال العراق. فالولايات المتحدة تنفق مليارات الدولارات في حروبها وبشكل ممنهج وذلك لسببين هامين جداً، الأول يهدف لفرض سياساتها الاقتصادية على العالم، باسم الحرية ودعم الديمقراطية ومحاربة الشيوعية ثم الإسلاموية ثم الإرهاب واليوم باسم الفوبيا الروسية والفوبيا الصينية وهلم جرًّا، والثاني، تنشيط الشركات الأميركية، وأهمها شركات السلاح. والسبب الثاني يحتل أهمية خاصة جداً لأنها تدفع تكاليف تطوير السلاح وأنواعه، فمن يتولى ذلك شركات خاصة في الولايات المتحدة وتدفع ثمنه الدولة.
تجدر الإشارة إلى أن ما حافظ على قيمة العملة الأميركية في التداول خلال الأعوام الماضية هو ربط سعر برميل النفط بالدولار فقط.
تعاني الولايات المتحدة من تضخم مالي يمكن في أية لحظة أن يحدث انفجاراً اقتصادياً ضخماً من خلال عمليتي رفع قيمة الفائدة وطبع التريليونات من دون رصيد حقيقي. وبمتابعة ما قاله مدير البنك الفيدرالي الأميركي جيروم باول، أن النية هي باستمرار رفع الفائدة حتى تصل الى 4.6% في العام 2023 وسيستمر ذلك حتى العام 2024. ورسم باول صورة قاتمة للاقتصاد، حيث توقع انخفاض النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وأن لا تعافي من التضخم قبل العام 2025. وهذا معناه أن لا علاقة للتضخم بجنس الحكومة او الكونغرس القادمين.
في العام 2020 طبعت أمريكا 2.3 تريليون دولار. وبحسب تقرير لـ "فين ماركت" في كانون الثاني/يناير 2022، فإن الاقتصاد الأميركي قد نما في العام 2021 ككل بنسبة 5.7%، وهي أسرع وتيرة نمو منذ العام 1984، وقد جاءت بعد انخفاض قياسي بنسبة 3.4% في 2020، أي بعد عام من اجتياح وباء كورونا. والبيانات الأولية من التجارة الأميركية أظهرت أن الاقتصاد الأميركي نما بنسبة 6.9% على أساس سنوي في الربع الأخير من العام 2021، مسجلاً أقوى نمو له في 5 فصول متتالية مستدلين على ذلك من خلال انتعاش الإنفاق الاستهلاكي.
في حين أنه في تقرير العام الحالي، وبحسب وكالة نوفستي، فإن بيانات وزارة الخزانة الأميركية تشير إلى أن حجم الدين العام الأمريكي قد وصل إلى مستوى قياسي بقيمة 31.4 تريليون دولار للمرة الأولى، خاصة بعد ان وقع الرئيس الأميركي جو بايدن على قانون زيادة حد الدين الوطني بمقدار 2.5 تريليون دولار.
لا يمكن لأحد أن يقلل من تداعيات الحرب الأميركية الروسية في اوكرانيا على الاقتصاد العالمي والدولار تحديداً، خاصة بعد أن اتخذت دول، وأهمها الصين وروسيا، القرار بالتداول بالعملات المحلية، بعد أن قررت أمريكا فرض العقوبات على الغاز والمنتجات النفطية الروسية، الذي انعكس خسائر كبيرة عليها وبالتأكيد سيتسبب بانهيار مالي وقد يؤدي إلى انفصال بعض الولايات.
هذا النوع من الانهيار حذر منه رجل الأعمال الأميركي باري ستيرنليخت، الرئيس التنفيذي لمجموعة ستاروود المالية. ووجه انتقادات حادة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي رفع الفائدة للمرة الخامسة هذا العام، مكرراً تحذيره هذا الشهر، حيث قال لمجلة فورتشين: "إن الاقتصاد "ينكسر بشدة" مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، مما يعني أن الركود الآن أمر لا مفر منه". وأكد أن ما سيحدث سيضعف الثقة بالنظام الرأسمالي بين الأميركيين، خاصة وأن الفقراء هم الذين يتأثرون بالتضخم، وبسبب ارتفاع معدلات البطالة بين الناس.
كيف سيستطيع الأميركيون تخطي هذه المرحلة الصعبة؟ وهل سيؤدي ذلك إلى موجات جديدة من الدعوات للانفصال؟
في مقال نشر في العهد بعنوان "هل وصلت أمريكا إلى النهاية؟"، كنا قد تحدثنا في جزء منه عن حركة متكررة من أجل انفصال الولايات الأميركية عن الدولة الفيدرالية، وقد استطاعت المحاكم الأميركية آنذاك وقف محاولات الانفصال. ومنذ شهرين بدأت المطالبات الجديدة بانفصال ولاية تكساس عن الدولة الفيدرالية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه ليس هناك أي من الولايات الأميركية يمكنها ان تلعب دورا فاعلا في إعادة لم شمل الدولة أميركا الموحدة بعد الانفصال، اذ إن هناك عاملين هامين في الحفاظ على تماسك الدولة، بعد تحييد العامل الاقتصادي، ألا وهما الإحساس بالمواطنة الحقيقية والعلاقة التاريخية ما بين الإنسان وما بين الوطن على مدى أجيال.
أمريكا تمثل حالة مواطنية انفلاشية. قد يشعر الأميركي بفخر يصل درجة الغرور بأنه ينتمي لهذه الدولة، ولكن خلال حياته الحقيقية فهو يقطن في تجمعات ذات طابع إثني وعرقي وديني، ويعرف نفسه كما يعرفه الآخرين من خلال هذا الطابع.
وأما فيما يتعلق بالعلاقة التاريخية بين الولايات، فنحن لدينا مجموعة من الولايات التي ضمت قسراً للفيدرالية الأميركية، ومنها نيو مكسيكو وتكساس وكاليفورنيا وآلاسكا وغيرها. هذا عدا عن الشعور بالاستياء التاريخي عند الولايات الجنوبية بسبب خسارتها الحرب الأهلية الأميركية (1861- 1865)، وهي حرب انفصال الجنوب عن الشمال في أساسها.
ولكن الانفصال الأكثر تأثيراً، هو انفصال كاليفورنيا، فإذا علمنا أن واردات شركة آبل وحدها بلغت 266 مليار دولار في العام 2017، هذه العائدات انخفضت بالتأكيد هذا العام بسبب التضخم، ولكن هذا لا يقلل من تأثير وادي السيلكون في كاليفورنيا. ويبلغ الناتج الإجمالي المحلي في كاليفورنيا 2.7 تريليون دولار، وتعد رافد الإيرادات الضريبي الأول في الدولة. وتحتل كاليفورنيا المرتبة الخامسة في الاقتصاد العالمي، ولذا، وبحسب تقرير لـ BBC، نشر في العام 2019، فإن انفصال كاليفورنيا سيكون شديد التداعيات على ما تبقى من الولايات المتحدة، وستتكبد خسائر اقتصادية جمة، ويقول بريندان أوليري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا: "سيتهاوى سعر الدولار مقابل العملات الأجنبية، وقد يحل محله اليورو أو اليوان الصيني في صدارة العملات العالمية". وهذا ما سيفقد امريكا مكانتها العالمية.
وقد كان استياء حاكم كاليفورنيا خلال الركود الاقتصادي في أواخر عهد ترامب كبيراً، وقد قاد حملة كبيرة ضده بسبب عدم توفير اللقاح اللازم مع بداية وباء كوفيد 19، وهدد بعدم دفع الضرائب. وهذا التهديد يمكنه أن يصبح واقعاً انفصالياً في حال انتشار البطالة، التي ستؤدي إلى الفوضى وفوضى السلاح، وهو ما حذرت منه "باربرا والترز" في مقال كتبته في "الغارديان". والترز صحفية مخضرمة في ABC NEWS، وتبلغ من العمر 93 عاماً، وقد نبهت من تكرار لغة "الحرب الأهلية" المستجدة في الأعوام القليلة الماضية، والتي ازدادت وتيرتها حديثاً. ويبدو أن اللغة العنصرية المستخدمة تحرض على ذلك بشدة. وبالتالي فإن الحرب الأهلية وفقدان الأمن يمكن بالفعل أن يؤدي إلى انفصال كاليفورنيا وغيرها من الولايات الغنية، والتي تعتمد عليها تحديداً العاصمة الأميركية واشنطن ومقاطعتها التي يقوم اقتصادها على السياحة وعلى اعتبارها مركزاً حكومياً، ومركزاً لطبع الدولار، وبالتالي فإن الولاية بمن فيها لن تصلح إلا كمعلم سياحي يشبه بشكل ما دولة الفاتيكان، والتي موقعها كمركز ديني في الغرب أهم بكثير من البيت الأبيض.
إن السياسات المالية للبنك الفيدرالي الأميركي، والذي يعتبر أحد أركان "الدولة العميقة" في أميركا، ستتسبب بتهاويه وستنتهي معه الدولة بأكملها ما إن تنتهي الهيمنة العالمية للدولار.