محمد جرادات

الدونية تجاه الغرب تسببت بعقم الحضارة الإسلامية، حتى أخذت تحبو للنهوض، وكانت رمزية الحجاب مصاحبة لهذا النهوض على الدوام، باعتباره واحداً من المعبّرات عن هوية الأمة في استعادة ذاتها.

جاء الخبر الذي كشفته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية عن دور اليهودية من أصل إيراني، إلهام يعقوبيان، في تفعيل الأحداث الأخيرة في إيران عقب وفاة الفتاة الإيرانية مهسا أميني، ليعكس مستوى التداخل بين قضايا المرأة الشرقية وطبيعة الاستثمار الغربي المتوقد طوال الوقت لحرف هذه القضايا عن بيئتها وخصوصيتها الحضارية، وخصوصاً أن يعقوبيان تعمل منذ زمن مستشارة للحرس الوطني الأميركي في كاليفورنيا في مجال التواصل الاجتماعي.

وسواء صحّ ما كشفته "معاريف" عن دور يعقوبيان المزعوم أم أن ذلك مجرد تفاخر إسرائيلي يبالغ ببطولات فتاة يهودية استطاعت تفعيل احتجاجات نسوية داخل إيران، فهو في الحالتين يعكس مشروعاً يحاول حرف المرأة الشرقية عن طبيعتها التي تتسق مع الحضارات الشرقية المتعاقبة، وأهمها الحضارة الإسلامية، وهي حضارة أرست معالم هوية إنسانية تلائم بين حيوية المرأة العقلية والعاطفية ضمن محددات خاصة بالرجل وأخرى خاصة بالمرأة، والحجاب الذي أخذ خصوصية في إيران منذ ثورتها الإسلامية محدد شكلي بمبدأ جوهري لم يمنع الإيرانيات عن شتى الأنشطة السياسية والرياضية والفنية.

ولعل الطموح الأمني/الاجتماعي الذي سبق أن أعلنه الجنرال الأميركي كيث دايتون للمرأة الفلسطينية، غداة عمله مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، معبر عن هدفه في رؤية صبايا جنين وهن يسهرن في شوارعها لما بعد منتصف الليل من دون رقيب، ليعبّر عن طبيعة التداخل الاجتماعي والأمني والسياسي في المشروع الغربي، وخصوصاً الأميركي/الإسرائيلي منه، فدايتون جنرال عسكري عمل مع أجهزة أمنية، ولكن عينه كانت على صبايا جنين، فإن تحقق سفورهن اكتمل مشروعه الأمني.

صبايا جنين اللواتي كُنّ محط رؤية دايتون، أصبحن بعد عقدين مضيا على طموحه أمهات يسهرن الليل في بيوتهن يترقبن طلة أبنائهن بعد كل مواجهة مع المحتل، إذ أضحت جنين رأس حربة تبذل الدماء والمهج. وقد ربّين فلذات أكبادهن على قيم أصيلة لم ينجح معها مشروع دايتون في حرف نبضهن مذ كنّ صبايا في المدارس والجامعات، ومثالهن الزهراء والخنساء، وعشرات الفدائيات من هبة دراغمة حتى هنادي جرادات.

وكان التحريض الغربي بلغ ذروته في الآونة الأخيرة، عندما جاهر الرئيس الأميركي جو بايدن بالإشادة بشجاعة مجموعة من الإيرانيات اللواتي نزعن الحجاب، ليكشف بلا مواربة جوهر الحضارة الغربية وحقيقة مشروعها تجاه المرأة عموماً، والشرقية منها على وجه الخصوص، وهو مشروع يعكس النظرة الغربية للمرأة باعتبارها أداة رخيصة للجشع الرأسمالي.

والحال أن كل شعارات الحرية والمساواة الغربية، وإن أفضت إلى نقلة نوعية في دور المرأة الغربية في المجال السياسي والاجتماعي مقارنة بالقرون الوسطى، إلّا أنها بقيت في إطار الاستغلال الماديّ، والعالم رأى بايدن وقد انتصر للتعرّي الفاضح في مقابل حشمة المرأة ورزانتها، ولم يتدخل بشأن نسوي سياسي أو علميّ أو حقوقي أو فني، والكل يعلم أن المرأة الشرقية في إيران وباكستان والصين وماليزيا وتركيا والكثير من الدول الشرقية تنشط في جميع مجالات الحياة، بما يفوق المرأة الأميركية، وليس أدل على ذلك من دور المرأة الإيرانية في السينما، باعتباره الإنساني، مع الحشمة، في مقابل المرأة الأميركية في ابتذال دورها السينمائي وانحطاطه الأخلاقي.

ولعل الاهتمام الإعلامي الإسرائيلي، فضلاً عن الغربي، بمواكبة الأحداث الأخيرة في إيران، عبّر عنه المعلق الشهير للشؤون العربية في "القناة الـ12" الإسرائيلية إيهود يعاري: "للأسف الشديد، نجحت السلطات في إيران في وضع بطانية ثقيلة على موجة الاحتجاجات التي شملت مدناً إيرانية، رغم أن الأميركيين يبذلون جهوداً من أجل فتح الإنترنت بعد تعطيل إيران شبكات التواصل الاجتماعي، لكنّ هذا لم يساعد، ونحن نرى تراجعاً واضحاً جداً في حجم التظاهرات وقوتها، وأيضاً في الجانب العنيف منها".

إن العين الإسرائيلية، وهي تلخص عين الغرب بكلّيته، راهنت على رؤية المرأة الشرقية، وليس الإيرانية وحدها، وهي تنزع حشمتها التي يرمز إليها الحجاب بدلالاته الإسلامية الجامعة، وهي دلالات وحدة الأمة وواحدة من مميزاتها في العالم، في وقت يسعى الغرب لضمان ارتهان الشرق بكامله لنمطه المعيشي والاستهلاكيّ، بما يحاكي حال الدونية في الفكر والشعور واللباس والطعام.

فشل المسعى الغربي تاريخياً في العبور من خلال نافذة الحشمة الشرقية، وإن حقق نجاحات نسبية عبر مداخيل العلوم والفنون والرياضة، ولكن هذه النجاحات ظلت تراوح مكانها من دون أن تخلق ظاهرة غالبة، فالمرأة الشرقية في حشمتها سبرت غور مختلف مناحي الحياة، حتى داخل أميركا وأوروبا، حيث تنشط نسوة من شتى دول الشرق الإسلامي والآسيوي، مع المحافظة على خصوصيتهن الحضارية، وإن تخفف بعضهن من الحجاب بصورته التقليدية الشرعية.

مرّ قرن كامل على منع الحجاب في تركيا بغية ضمها إلى الاتحاد الأوروبي. ومنذ 10 سنوات فقط، تم رفع هذا الحظر. وفي إيران، أعلن الشاه قبل قرن من الزمان أن "الغربيين لن يضحكوا علينا الآن!"، وهو يختم على قانون منع الحجاب بالقوة، فالدونية تجاه الغرب كانت العقدة النفسية التي كانت تسيطر، ولا تزال، على شعور الطبقة السياسية والنخب المتعلمنة في الشرق، في ظل ارتهان كامل للسياسة الغربية.

الدونية تجاه الغرب تسببت بعقم الحضارة الإسلامية حتى أخذت تحبو للنهوض، وكانت رمزية الحجاب مصاحبة لهذا النهوض على الدوام، باعتباره واحداً من المعبّرات عن هوية الأمة في استعادة ذاتها. لذا، يبدو طبيعيّاً أن يقف الغرب بكليته للعزف على وتر حرّية المرأة الشرقية، في خلط فاضح بين قيم الحرية الحقيقية والتبعية في تقليد النمط الغربي، وقد ثبت فشله في منابع ولادته.