هل بات العراق على حافة الهاوية؟
عادل الجبوري
استهداف السلطة القضائية وتعطيلها، مثلما حصل مع السلطة التشريعية (البرلمان)، لن يفضي-وفق التصورات والقراءات العامة-إلى تحقيق مطالب التيار الصدري.
بينما كنت أهمّ بالكتابة عن أبرز معطيات قمة العلمين وآفاقها ومخرجاتها، والتي استضافتها جمهورية مصر العربية الأسبوع الماضي، وشارك فيها كل من الملك الأردني عبد الله الثاني، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد، وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، إلى جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وإذا ببوصلة الأحداث تتجه على نحو سريع وخطير إلى العراق، إلى الحد الذي جعلت الكاظمي، يقفل عائداً إلى بغداد، تاركاً وراءه جدول أعمال مزدحماً وحافلاً باللقاءات والاجتماعات الجماعية والثنائية مع نظرائه الآخرين، وبالملفات والقضايا المحلية والإقليمية والدولية المختلفة.
اندفاع جموع من أتباع التيار الصدري، المعتصمين منذ نحو شهر أمام مبنى البرلمان العراقي داخل المنطقة الخضراء، في اتجاه مقر مجلس القضاء الأعلى والشروع بتنفيذ اعتصام مفتوح أمامه، مماثل لاعتصام البرلمان، ناهيك بالتهديد والتلويح باقتحامه، مثّل تحولاً خطيراً في إيقاع الأزمة السياسية ومسارها، ومؤشراً على أن الأمور سائرة إلى المزيد من التعقيد والتأزيم، بدلاً من التهدئة والاحتواء.
ومنذ أن أعلن مجلس القضاء الأعلى أنه لا يمتلك صلاحية حلّ البرلمان، كما طلب منه ذلك زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، تصاعدت حملات التيار الإعلامية والشعبية والسياسية ضد رئيس المجلس القاضي فائق زيدان وضد عموم منظومة القضاء، حتى وصلت إلى حد الدعوة إلى إقالته والتلويح والتلميح إلى أن مجلس القضاء سيكون الهدف التالي للمتظاهرين.
بيد أنه، وفي ظل عدم انقطاع كل الخيوط، ولا انهيار كل الجسور مع التيار الصدري، لم يكن متوقعاً أن يقدم الأخير على الذهاب بعيداً في التصعيد، ولا سيما أن السلطة القضائية، وإن بدت بالنسبة إلى البعض، تصدر قرارات ذات صبغة سياسية، تراعي هذا الطرف أو ذاك، إلا أنها بنظر الكثيرين ما زالت تعدّ أحد أبرز الملاذات المهمة لحل الأزمة الراهنة واحتوائها أو مجمل الأزمات السياسية، والحؤول دون الوصول إلى النقاط الحرجة والمنعطفات الخطيرة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، إن استهداف السلطة القضائية وتعطيلها، مثلما حصل مع السلطة التشريعية (البرلمان)، لن يفضي-وفق التصورات والقراءات العامة-إلى تحقيق مطالب التيار الصدري، إن لم يتسبب في خلط الأوراق وبعثرتها، وبالتالي اختلال كل الحسابات، هذا إذا كانت هناك حسابات مبنية على معطيات تأخذ في الاعتبار حقائق الواقع لا أن تتجاهلها وتحاول القفز عليها تماماً.
ربما كان التيار الصدري، يفترض أن تكون ردود الأفعال إزاء استهدافه مجلس القضاء الأعلى، مماثلة أو مشابهة لردود الأفعال حيال استهداف البرلمان واقتحامه، ولأن الأمور لم تأت مثلما كان يأمل ويتوقع، انسحب بعد بضع ساعات، بناء على توجيهات مباشرة من الصدر، نقلها عنه وزيره صالح محمد العراقي.
المختلف بين اقتحام البرلمان والشروع أو التلويح باقتحام مجلس القضاء الأعلى، تمثل بعدّة أمور من بينها:
-اتخاذ السلطة القضائية قرارات سريعة، رداً على تصعيد التيار الصدري، من قبيل تعليق عمل المحاكم كافة في عموم أنحاء البلاد، احتجاجاً على ما جرى. فضلاً عن إصدار مذكرات قبض ومنع السفر ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة بحق عدد من قيادات التيار الصدري وكوادره بتهمة التحريض وتهديد القضاء. وقد كان لتلك الخطوات والإجراءات السريعة أثر واضح في كبح جماح الاندفاعات غير المحسوبة العواقب والنتائج.
-تبلور إجماع أو شبه إجماع من شتى القوى والكيانات والشخصيات السياسية على اختلاف مسمياتها، على أن استهداف السلطة القضائية والسعي إلى تعطيلها، يعني فيما يعنيه، الذهاب إلى أسوأ الخيارات وأخطرها. وحتى الذين أيدوا ودعموا التيار الصدري في مطالبته بحل البرلمان والاتجاه إلى إجراء انتخابات برلمانية أخرى، اختلفوا معه في آليات تطبيق هذه المطالب، بل أكثر من ذلك عدّوا القضاء خطاً أحمر، ويجب عدم إقحامه في لجّة الصراع السياسي، وإن كانت هناك جملة ملاحظات وتحفظات واعتراضات يمكن أن تسجل على أدائه، لا سيما ما يتعلق منها بالشق الدستوري بقدر أكبر من الشقين المدني والجنائي.
-قوى الإطار التنسيقي، التي حرصت طيلة الشهور العشرة الماضية، على استخدام لغة هادئة ومتزنة في التعبير عن مواقفها وردود أفعالها حيال حراك التيار الصدري ومواقفه، في سياق سعيها لتوفير بيئة مناسبة للحوار والنقاش، من أجل احتواء الأزمة وإنهاء الانسداد السياسي، سارعت إلى التعبير عن رفضها واستنكارها الشديدين لاستهداف مجلس القضاء الأعلى.
وعبّر الإطار التنسيقي في بيان شديد اللهجة أصدره بعد وقت قصير من احتشاد المتظاهرين الصدريين أمام مبنى مجلس القضاء، عن إدانته الكاملة "للتجاوز الخطير على المؤسسة القضائية، وتهديدات التصفية الجسدية بحق رئيس المحكمة الدستورية، وطالب "كل القوى السياسية الوطنية المحترمة وكذلك الفعاليات المجتمعية بعدم السكوت، بل المبادرة إلى إدانة هذا التعدي".
وأعلن رفضه "استقبال أي رسالة من التيار الصدري أو أي دعوة للحوار المباشر، إلا بعد أن يعلن عن تراجعه عن احتلال مؤسسات الدولة الدستورية، والعودة إلى صف القوى التي تؤمن بالحلول السلمية الديمقراطية". محملاً الحكومة "كامل المسؤولية للحفاظ على ممتلكات الدولة وأرواح الموظفين والمسؤولين، خصوصاً السلطة القضائية التي تعدّ الصمام الوحيد الذي بقي للعراق نتيجة تسلط قوى خارجة عن الدولة على المؤسسات، وفرض إرادتها خارج سلطان الدولة".
-منظمة الأمم المتحدة كانت واضحة للغاية من خلال بيان بعثتها الأممية في العراق(يونامي)، إذ قالت "إن الحق في الاحتجاج السلمي عنصر أساسي من عناصر الديمقراطية، وأنه من المهم بالقدر نفسه تأكيد الامتثال الدستوري واحترام مؤسسات الدولة. يجب على مؤسسات الدولة أن تعمل من دون عائق في خدمة الشعب العراقي، بما في ذلك مجلس القضاء الأعلى". ولمحت البعثة الأممية إلى أن العراق قد يفقد دعم المجتمع الدولي فيما لو تعطلت أو عطلت مؤسساته الحكومية العليا.
هذه المعطيات، وربما غيرها من تلك التي لم تظهر إلى العلن، وبقيت محصورة في الكواليس والأروقة السياسية السرية، هي التي دفعت الصدر إلى توجيه أنصاره وأتباعه إلى إنهاء الاعتصام أمام مجلس القضاء وإبقائه أمام البرلمان، الذي قال عبر تغريدة بتوقيع وزيره صالح محمد العراقي، "في السلك القضائي في العراق الكثير من محبّي الإصلاح والمطالبين بمحاسبة الفاسدين، وإن كان هناك فتور في ذلك، فهو لوجود ضغوط سياسية من فسطاط الفساد ضدّهم، وأنه لو ثنيت لي الوسادة لكنت مع استمرار الاعتصام أمام القضاء الأعلى لنشجعه على الإصلاح ومحاسبة الفاسدين.. لكن، وللحفاظ على سمعة الثوّار الأحبة، ولعدم تضرر الشعب، أنصح بالانسحاب وإبقاء الخيام تحت عنوان ولافتة (اعتصام شهداء سبايكر)، (أهالي الموصل)، (استرجاع الأموال المنهوبة)، (محاسبة الفاسدين)، (إقالة الفاسدين)، (فصل الادعاء العام)، (قضاء مستقل ونزيه)، وغيرها من العناوين التي يريد الشعب تحقيقها".
التراجع السريع للصدر عن الاستمرار بالضغط والتهديد الشعبي للقضاء، كما حصل مع البرلمان، ارتبط بصورة مباشرة بحجم ردود الأفعال والإجراءات المتخذة، وأكثر من ذلك، بالسيناريوهات والخطوات التي من الممكن والمحتمل اتخاذها، من قبيل توسيع مساحة التظاهرات والاعتصامات لجماهير قوى الإطار التنسيقي والفئات الاجتماعية المتعاطفة معها، لتشمل منطقة الحنّانة، حيث مقر زعيم التيار، مثلما ألمحت بعض الجهات، ومن قبيل جمع أكبر عدد من تواقيع أعضاء البرلمان من أجل استئناف عقد جلسات الأخير في مكان مناسب، فضلاً عن تكريس الذهاب إلى الحوار وبلورته، كخيار لا بد منه قبل العمل على أي خيار آخر، وهذا ما يتفق ويلتقي عليه معظم-إن لم يكن كل- الفرقاء أو الشركاء السياسيين.
علماً أنه حتى التيار الصدري الذي ينادي بالإصلاح ومحاربة الفساد والفاسدين، لديه تحفظ واعتراض على أطراف سياسية معينة دون أخرى، والدليل أنه تحالف بعد الانتخابات مع قوى كردية وسنية، متهمة حالها حال غيرها من القوى السياسية بالفساد، باعتبارها كانت مساهمة في إدارة شؤون البلاد، من خلال مشاركتها المباشرة منذ عام 2003 في كل الحكومات السابقة وكذلك الحكومة الحالية.
مضافاً إلى ذلك كله، فإن ما لا يمكن إهماله وتجاوزه، هو أن التيار الصدري نجح في تحريك الشارع وتعطيل تشكيل الحكومة، واستخدام كل الأوراق، بيد أنه لم يفلح في صياغة البديل الواقعي والمنطقي والقابل للتطبيق وبلورته، وخصوصاً بعد انسحاب نواب التيار الثلاثة والسبعين من البرلمان بقرار من زعيمه السيد مقتدى الصدر، الذي أغلب الظن أنه استشعر خطأه لاحقاً.
وبعد خطوة الوصول إلى أسوار مجلس القضاء الأعلى والتهديد باقتحامه، ثم التراجع السريع-أياً تكن أسباب ذلك التراجع ودواعيه -يبدو أن التيار لم يعد يمتلك أدوات أكثر فاعلية وعملية للضغط وفرض الأمر الواقع، ولعل أقصى ما يمكنه فعله يتمثل في إبقاء الأوضاع معلّقة وقلقة وسائبة النهايات، وحتى خيار توسيع مديات التظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات الجماهيرية، عبر استهدافها مؤسسات حكومية سياسية وغير سياسية، ربما يأتي بنتائج معاكسة، فيما لو ترتب عليه الإضرار بمصالح الناس الحياتية وأمنهم، ناهيك بإمكانية دخول المجتمع الدولي على الخط.
ولا شك أن كل الخيارات والنتائج المحتملة، لا بد أن تكون حاضرة في ذهن زعيم التيار والدائرة المقربة منه والمساهمة في صنع القرارات وصياغتها، ومن غير المستبعد أن تكون هناك مساحة للبحث عن مخارج تضمن فرض أكبر قدر من اشتراطات التيار، وأقل قدر من الخسائر التي يفترض أن يتقبلها ويتحمل جزءاً من تبعاتها خصومه في الإطار التنسيقي، وحلفاؤه الكرد والسنة. وبدون ذلك، فإن العراق ذاهب إلى حافة الهاوية، وما على الجميع إلا انتظار وترقب أسوأ الاحتمالات.