بعد أربعين عاما من المواجهة: كيف تآكل التفوق الجوي لدى العدو؟
شارل ابي نادر
" تناقلت وسائل إعلام محلية أنَّ المضادات الأرضية التابعة لحزب الله تصدَّت لمسيّرة اسرائيلية في أجواء ميدون في البقاع الغربي، ووثّقت مقاطع مصورة لحظة اعتراض المضادات المسيّرة في أجواء البلدة المذكورة". وحيث يتكرر هذا الحدث إجمالا في المرحلة الاخيرة، يمكن القول إنه أصبح شبه ثابت (مواجهة المسيرات الاسرائيلية فوق الاجواء اللبنانية)، وذلك منذ أن أعلن الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في 25 آب/ أغسطس 2019 أنَّ المقاومة ستواجه الطائرات المُسيّرة الإسرائيلية عندما تدخل سماء لبنان وستعمل على إسقاطها.
عمليا، لقد تراجعت حركة مسيرات العدو فوق الأجواء اللبنانية بنسبة كبيرة جدا، وهذا الأمر يلمسه ويعترف به اغلبُ المتابعين في لبنان وفي الإقليم، وخاصة في أوساط العدو، الّا طبعا، لدى من يغمض عينيه عن أي إنجاز او إجراء تقوم به المقاومة في سبيل حماية لبنان وتحصين سيادته. وما نُقل مؤخرا على لسان المراسل العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل حول الموضوع، كان لافتا بتوقيته وباهميته وبحساسيته، اذ قال: "قدرة حزب الله على التسبّب في تآكل التفوق الجوي الإسرائيلي في لبنان، ستُلزم الجيش الإسرائيلي على البحث عن بدائل اخرى لأساليب جمع المعلومات الحالية"، ومضيفا أن تقليص حرية عمل سلاح الجو الإسرائيلي في لبنان، يمكن أن يُقلّل من جمع المعلومات الفعال للاستخبارات عن أنشطة المقاومة".
إذًا، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة استعمال المسيّرات في العالم بشكل كبير، كوسيلة رئيسية من وسائل القتال والمعركة الفعالة، أو كوسيلة أساسية لتحقيق مناورة المراقبة والرصد لدى الجيوش، تتراجع فعالية هذا السلاح لدى جيش العدو بنسبة كبيرة، وبعد أن كان الاخير يتميز بتفوقه الجوي، ويعتبر ان المحافظة على هذا التفوق - الذي يمثل أهم مبدأ من مبادىء عقيدته العسكرية - هو حاجة ضرورية جدا لابقاء مستوى تفوق وحداته العسكرية بشكل عام، على نفس مستوى ما سار عليه منذ بداية احتلاله لفلسطين ولمناطق عربية اخرى، ولابقاء الفارق لمصلحته دون تراجع، بين قدراته وقدرات جيوش الدول العربية والاسلامية المحيطة بكيانه الغاصب، هو اليوم مجبر، وباعتراف اغلب المتابعين ومن داخل كيانه، على إيجاد وسيلة أخرى للحصول على المعلومات عن لبنان، وعن المقاومة بالتحديد.
في الواقع، لا يمكن القفز ببساطة فوق هذا الأمر (تآكل التفوق الجوي لدى العدو)، وبشهادة شهود من عنده، ولا يمكن تجاوز ما يمكن أن ينتج عنه من تداعيات سلبية على عناصر معركته، وذلك على مستوى الصراع الذي يخوضه بمواجهة محور المقاومة، وبالتحديد بمواجهة حزب الله بشكل خاص، والسبب في أهمية مقاربة هذا الامر، هو ان القدرات الجوية لدى العدو، والتي طالما كانت متفوقة، ربما تشكل السلاح الوحيد الذي يمكن ان يحميه ويحمي احتلاله، ومن دونه، سيكون من المستحيل عليه المحافظة على هذا الاحتلال.
لقد استندت معركة العدو اجمالا بمواجهة لبنان وبشكل رئيسي، الى مناورة الرصد والمراقبة، والتي هي عمليا، الاكثر قدرة على تأمين المعطيات الاستعلامية المناسبة والضرورية للاستهدافات الجوية، والسبب الاساس وراء ذلك، هو ان المقاومة، والتي انطلقت منذ نشأتها من أربعين عاما من الصفر تقريبا بالقدرات وبالتجهيزات، نجحت وفي كل المجالات، في تطوير مستوى هذه القدرات بشكل لافت ومتسارع، وخاصة لناحية التجهيز بالاسلحة، أو لناحية الاعمال الهندسية التي أمنت لها التمركز المحصن والانتقالات السرية، والمواقع المخفية والمموهة وغير المكشوفة، وهذا الأمر اجبر العدو على الالتزام بتنفيذ مناورة رصد ومراقبة واسعة ودقيقة ومتواصلة، باساسها، تقوم على سلاح الجو، وعلى مسيرات الاستطلاع بالتحديد.
اليوم، وبعد اربعين عاما من القتال والاشتباك الصاخب ضد المقاومة، يبحث العدو عن استراتيجية أخرى لمواجهة حزب الله، بعد أن يعترف بان التفوق الجوي لديه يتآكل، فهل يمكن اعتبار الامر صحيحا؟ وكيف يمكن تفسير ذلك؟
عمليا، يمكن تقسيم التفوق الجوي لدى العدو الى قسمين، القسم الاول ويتعلق بالرصد والمراقبة والقسم الثاني يتعلق بالاستهداف وبالاعتداء من الجو بالصواريخ والقنابل الموجهة.
لناحية قسم الرصد والمراقبة والمتابعة الاستعلامية، يمكن القول ان العدو تخلى وبنسبة كبيرة عن هذه الناحية، بسبب القيود التي استطاع حزب الله فرضها على مسيّراته، من خلال امتلاك الحزب مستوى معقولا ـ غير واضحة درجته حتى الان ـ من منظومات الدفاع الجوي، والتي يقول عنها انها "مناسبة "، وهذه القيود استطاع حزب الله فرضها على العدو على مستويين، اولا لناحية العمق، اي بمنعه من اطلاق مسيراته الى المدى الذي كان يطلقها فيه سابقا داخل لبنان، وثانيا لناحية الوتيرة او العدد المرسل من هذه الطائرات، والتي انخفض عددها بدرجة كبيرة لدرجة غيابها شبه الكامل.
لناحية القسم الآخر، قسم الاستهداف الجوي بالصواريخ والقنابل الذكية للداخل اللبناني، فإن هذا الامر ايضا اصبح من الماضي، اولا بسبب تضاؤل معطيات العدو الاستعلامية نتيجة القيود التي اصابت مناورته في الرصد والمراقبة، وثانيا بسبب ما فرضه حزب الله من معادلات قوة وردع ومن قواعد اشتباك، يلتزم العدو بها بنسبة كبيرة جدا، او حتى بنسبة شبه كاملة.
من هنا، وانطلاقا من فقدان العدو قدرته المعهودة في الرصد والمراقبة ولو بشكل جزئي، وانطلاقا من فقدانه ورقة الاستهداف الجوي الصادم والمؤثر والرادع، والتي طالما ميزت معركته واعتداءاته ضد لبنان، يمكن القول وبكل موضوعية، ان حزب الله، وخلال مسيرة أربعين عاما من المواجهة والقتال والتضحيات والتخطيط والتجهيز والثبات والصبر، استطاع ان ينزع من العدو أهم ميزة كانت تتميز بها وحداته العسكرية وهي ميزة التفوق الجوي، وفي الوقت الذي بقي فيه سلاح الجو لدى العدو على نفس وتيرة التطور والتنامي، من خلال المحافظة على امتلاك احدث القاذفات الاستراتيجية وقاذفات الجيل الخامس مثل (F35 وF22)، بقيت هذه القدرة المتطورة عديمة الفعالية، كونها غير قادرة على تجاوز قواعد الاشتباك ومعادلات الردع التي فرضتها المقاومة.