ملامح المبارزة الاستراتيجية بين المقاومة والعدو
إيهاب شوقي
لا شك أن جيلا يمثله الشهيد إبراهيم النابلسي الذي أوصى وصيته الأخيرة وهو محاصر، بعدم ترك "البارودة"، في إشارة للتشبث بخيار المقاومة حتى الرمق الأخير، هو جيل يعول عليه في حفظ القضية بل وفي التحرير.
ومن دلالات ذلك المباشرة والمنطقية، أن جيلا ولد بعد اتفاقيات أوسلو وشبيهاتها، ويحمل هذه العقيدة، هو جيل يمثل المستقبل، ولا مستقبل معه في فلسطين لكل من يفرط في خيار المقاومة أو يتخاذل أو يترك "البارودة".
المقاومة والتي حفظت القضية حاضرة تتعرض الآن لأبشع استهداف مزدوج، وهو استهداف منبثق من الثنائية الشهيرة المتمثلة في "العصا والجزرة".
كما يمارس العدو، والذي بدأ يشعر بانعدام جدوى مشروعه واليأس من القضاء على المقاومة حتى على المستوى الثقافي والوجداني، أبشع أنواع التآمر، وأحقر أنواع الضغوط حتى على أصدقائه والمطبعين معه.
هذه الحالة الصهيونية المتناقضة، والتي تتمثل في ممارسات لا تتناسب شراستها مع فائض القوة، ولا تعكس مجازفاتها حقيقة موازين القوى، هي حالة مرتبكة بلا شك وتعبر عن فقدان للأعصاب وتعكس معضلة كبيرة.
وقبل التطرق إلى هذه المعضلة التي عبرت عنها المنابر الاستراتيجية الصهيونية، ينبغي أن نعترف بأن العدو ورغم أخطائه القاتلة وحماقاته المتعددة وسوء تقديراته المتكررة، إلا أنه يجيد المعادلات الاستراتيجية ويعلم جيدا ما يريد ترسيخه استراتيجيا باستخدام كل الوسائل القذرة التي تتاح له.
وبالتالي فإن العدو وفي إطار سعيه هذا يعمل على إفساد الانجازات الاستراتيجية التي تحققت، سواء في لبنان أو في فلسطين، كما يلي:
1- يتمثل سعيه في لبنان لإفساد معادلات الردع الاستراتيجية في تعميق الحصار بمعاونة راعيه الأمريكي ومحاولة إيصال رسالة مفادها أنه لا قيمة للحرية والاستقلال وتحرير الأرض مع الحصار والجوع وأن الحل الوحيد للبقاء على قيد الحياة والحصول على الحدود الدنيا من المعيشة الآدمية يتمثل في التفريط والتخلي عن خيار المقاومة.
كذلك يحاول العدو الالتفاف على توازن الردع والرعب على مستوى الحرب العسكرية بمعادلات أخرى في الحرب الاقتصادية يظن أن المقاومة لا تملك إحداث التوازن بها لأنها لا تمتلك قرارا لدى الشركات العالمية الكبرى ولا تمتلك نفوذا لدى المنظمات الدولية وكارتيللات النظام العالمي المتحكمة في اقتصاديات العالم، بينما يمتلك هو رعاية من أمريكا المتحكمة في هذه الأدوات.
وهنا كانت شجاعة المقاومة بتهديدها بقلب الطاولة اقتصاديا لو لم يخرج لبنان من عزلته وحصاره، وبالتالي نستطيع القول إن المقاومة دشنت توازنا للردع والرعب في الحرب الاقتصادية أيضا كما العسكرية.
2- في فلسطين، يحاول العدو الالتفاف على أكبر معادلة استراتيجية تحققت في السنوات الأخيرة، وهي معادلة سيف القدس، والتي حققت انجازا استراتيجيا متعدد الأبعاد، يتمثل في وحدة الفصائل المقاومة، وفي ربط الساحات وعدم تكريس فصل غزة عن الضفة والقدس وكامل فلسطين المحتلة.
وهنا عمل العدو بوعي على تفريغ هذه المعادلة من مضمونها، باقتحامات متعددة واستفزازية للأقصى، وبتمرير مسيرات الأعلام، وبانتهاكات وجرائم في الضفة، وعلى تعميق الحصار والضغوط في غزة لعدم الرد وتثبيت المعادلات.
ثم ذهب العدو للخطوة التالية والأخطر، وهي القضاء على وحدة الفصائل التي اشتركت في تكريس معادلة سيف القدس، بالإعلان عن استهداف فصيل بعينه دون الفصائل الأخرى لفض الارتباط بين الفصائل وتفريغ المعادلة الاستراتيجية من كامل مضمونها.
ولهذا اعترف العدو وفي اكبر منابره الاستراتيجية بأنه لم ينجح في القضاء على حركة الجهاد وأن اغتيال قادتها لا يعد انجازا لأن القادة سيتجددون، وبأن قوة سرايا القدس وقدرتها على استهداف الكيان المؤقت بالصواريخ لا تزال موجودة وقائمة، ولكنه روج للجمهور الصهيوني أن الانجاز الأكبر وربما الوحيد هو إبقاء حركة حماس دون تدخل، وأنه استطاع إنهاء القتال في أيام معدودة دون استنزاف لجبهته الداخلية.
وهذا يفرض ردا عمليا مقاوما بنفس الميزان الاستراتيجي لتكذيب انجاز العدو الذي يروج له، بإعادة الرد الجماعي لكل الفصائل وبشكل علني لتثبيت وحدة الفصائل علنا ولتثبيت معادلة سيف القدس المجيدة.
وبخصوص المعضلة الصهيونية التي أبرزتها المنابر الاستراتيجية الكبرى لدى العدو، فهي تتلخص في جدية حزب الله في تهديداته ومصداقية السيد نصر الله، وأن على لابيد وغانتس مواجهة أيام صعبة بداية من أيلول.
وتتمثل المعضلة في كيفية تعاطي الكيان مع معادلة الردع مع حزب الله، فإن القبول بشروط المقاومة يمس بهيبة "إسرائيل" ويعتبر خللا كبيرا في ميزان الردع، بينما الرفض يجعل هناك مواجهة عسكرية غير مضمونة العواقب ولا بد من تحديد خطة للتعامل معها ومع انزلاقاتها.
وهنا نرى أن تقدير العدو يرمي إلى مواجهة محدودة في حال اندلاعها، تتمثل في استهداف لمنصات الغاز ورد إسرائيلي، وربما اللجوء لوساطات وتسويات على غرار ما يحدث بغزة، وبقاء لبنان محاصرا وبقاء الوضع على ما هو عليه.
وهنا يغفل العدو أن المقاومة توعدت بمواجهة شاملة وربما تنزلق جبهاتها وبأنها ليست معركة على مزاج العدو الاستراتيجي الذي يسميها "معركة بين الحروب"، بل ستكون وفقا للمزاج الاستراتيجي المقاوم الذي يعرف ماذا يفعل وماذا يكرس من معادلات.