لحظة لبنان الفارقة
أحمد فؤاد
تأخذنا قراءة التاريخ، وخصوصًا اللحظات الفارقة فيه، إلى طريقين لا ثالث لهما في تقييم أثر الفاعل التاريخي على الأقدار. ورغم أن نهاية الطريقين تكاد تبدو متشابهة، كلاهما على مقربة من الآخر إلى حد التماس، بحيث يغطيهما فضاء واحد، أو كضفتي نهر، أحدهما نجح في العبور إلى ضفاف الأمان الفسيحة، بينما وقف الآخر ينظر أو ينتظر.
ودائمًا ما كان تصرف القائد/ الفاعل التاريخي، محل الإعجاب والتقدير في كل العصور والأزمنة، فالشخص الذي يتمكن من إدارة تلك اللحظة وحشد موارده وتعبئتها وتوجيهها، يستطيع أن يظفر بالإمساك بها وتحويلها من لحظة إلى فرصة، ومن حائط أمامه إلى باب يعبره، وربما إن استطاع النجاح سيمسك حينذاك بالحاضر الراهن ويكون ملك المستقبل المنظور.
..في يوم الجمعة الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1307، مرت أوروبا والمسيحية بلحظة تاريخية فارقة، كان لها ما بعدها كله، ضربت أسس المجتمع القائم حينها، وبدلت كل موازين القوى، وعطلت المعادلات القديمة للنفوذ والسيطرة، بل وأفقدت بعض أهم الأطراف كل قدرتها على الفعل، لتخرج إلى عالم جديد من العجز وتكتفي بدور المتفرج.
كانت القارة العجوز عقب فشل "الحملات الصليبية" على الشرق الإسلامي في حالة من الحيرة والشك لم يسبق لهما مثيل، وسط أسئلة عن "تخلي الرب عن عباده"، وانكشاف فشل الكنيسة في قيادة "خراف الرب" نحو حياة أفضل، ومع سيادة الظلام التي ميزت العصور الوسطى في كل أنحاء أوروبا الغربية، فقد بدا أن رجلًا واحدًا رأى الفرصة وخطط لاستغلالها، بتصميم لا يعرف التهاون أو الرحمة.
حينذاك، قرر الملك الفرنسي القوي فيليب الرابع أن بلاده لا تستطيع تحمل سلطتين وسيادتين، الدولة والكنيسة الرومانية، ووجه أخطر ضربة إلى درع الكنيسة المانع وسيفها البتار كما كانت خزينة تمويلها القادرة، جماعة فرسان الهيكل، وأمر قواته عبر رسائل سرية مغلقة أن تتبع كل شخص يتبع فرسان الهيكل في كامل أنحاء مملكته.
وبسرعة أخضع كل المعتقلين لتعذيب وحشي، ليعترفوا على إثره بجرائم مشينة، تضمنت الهرطقة والأفعال المحرمة، وبدأت الماكينة الدعائية للملك الذكي في إذاعة الأخبار والاعترافات الصادمة علنًا بالمدن والقرى الفرنسية، كما أرسل نسخًا إلى ملوك أوروبا طالبًا أن يحذوا حذوه في القضاء على الجماعة الضالة ومصادرة أموالها، وهي ما أسالت لعاب كل العروش الأوروبية تقريبًا.
والجماعة التي نشأت كتنظيم عسكري محترف، احتاجتها ظروف الحملات الصليبية، كانت تتمدد في كل مكان بأوروبا الغربية، عبر شبكات الدعم والإمداد والمزارع الجماعية، لتؤسس نظامًا ماليًا هو الأصل الفعلي لعمل البنوك حاليًا، كما امتلكت من القلاع والحصون والأراضي أضعاف ما امتلكه كل ملوك أوروبا مجتمعين، وهذا كله بفضل اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بالتنظيم كتابع لها، ومنحه امتيازات مالية ولوجيستية هائلة، وإعفاء موارده وأمواله من الضرائب في كل أوروبا.
كانت ضربة فيليب تشكل طعنة غائرة وبالغة العمق للكنيسة وعلى رأسها البابا كليمنت الخامس، وفي الوقت ذاته، مثلت الاعترافات المنتزعة ضربات مطارق هائلة هزت الوجدان الجمعي في أوروبا الكاثوليكية، لكنها أيضًا كانت المفتتح والبداية لنهاية عصر الظلام، وفتح باب عصر النهضة الأوروبية.
وكما نجح فيليب الرابع في استخدام كل إمكانياته للقضاء على أخطر تنظيم عرفته أوروبا في العصور الوسطى، فقد فشل البابا الضعيف كليمنت الخامس في إدارة اللحظة، وتركها تسرقه إلى حيث أراد الملك الذكي، فأفقد الكنيسة سيطرتها الهائلة على أوروبا، وقطع دابر نفوذها المادي والعسكري بتدمير أهم مصدر قوة لها، وفي النهاية صدق البابا على أحكام ملك فرنسا مضطرًا، خوفًا من أن يفقد هيبته، لكنه في المقابل فقد كل سلطة.
وهكذا، وفي كل قصة، هناك رجل يصنع العصر، ورجل آخر يخضعه العصر، وتتقاذفه الأقدار.
في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، كان الرئيس المصري أنور السادات قد وضع كل رهاناته في الحجر الأميركي، فهو كما قال أمام "مجلس شعبه" يرى أن 99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة، ويؤمن أن الكيان الصهيوني هو أقرب طريق لقلب واشنطن، وبالتالي كانت كل قرارته منذ توليه الرئاسة تصب في هذا الاتجاه وتحت هذا الإيمان.
أراد السادات بعد توقيع اتفاقية الانسحاق في "كامب دافيد" أن يثبت للأميركي والصهيوني كم هو مفيد لهم، فحاول أن يصل بالتطبيع مع الكيان إلى الشارع المصري مباشرة، وخطط من خلال استخدام الكنيسة القبطية لإرسال آلاف الحجاج الأقباط إلى فلسطين المحتلة، نحو الأراضي المقدسة، لموازنة السياحة الصهيونية التي بدأت تفد إلى سيناء حينذاك.
لكن البابا الذكي رفض تمامًا طلب السادات، ولم يهتز أمام الضغوط والتهديدات، بل وصل به التحدي مبلغًا أن أصدر قرار حرمان بحق أي قبطي يزور المقدسات المسيحية في فلسطين، الأمر الذي أودى به إلى تحديد الإقامة في دير وادي النطرون، وأقام السادات لجنة لتسيير شؤون الكنيسة القبطية.
كان قرار البابا شنودة وطنيًا بامتياز، لكنه كان قرار براغماتيًا أيضًا. وفي كتاب خريف الغضب للأستاذ محمد حسنين هيكل، عن سنوات السادات الأخيرة، ينقل الصحفي المصري الأشهر عن البابا من الأسباب التي دعته لرفض طلب السادات، وهي أن المقاطعة العربية لمصر ضد حقائق التاريخ والمنطق، كذلك هي العلاقات مع الكيان الصهيوني، فإذا عادت مصر للحضن العربي، سينظر للأقباط على أنهم "خونة الأمة"، وهو مستقبل مرعب.
في النهاية سقط السادات، في اليوم الذي قال عنه "يوم انتصاره"، وببزته العسكرية نازية التصميم، وعلى يد من كان يدعوهم "أولادي وجيشي"، بينما عاد البابا شنودة إلى كرسيه، واستمر رمزًا لرفض التطبيع والخيانة.
يؤمن كل عاقل، يتمتع بأقل درجات الرؤية، أن الكيان الصهيوني قام ضد طبيعة الأرض وضد حركة التاريخ، وقام بالقوة والسيف والإرهاب، ولا استمرار له بدونهم جميعًا، وقبل كل شيء، دون سيطرة أميركية عالمية، تحمي وتمد وتضمن، لذا، فإن بقاء هذا الكيان الهش مشكوك فيه بالأصل.
وهذا الأمر وحده هو ما يدعو للاستغراب والحنق من موقف الأنظمة العربية المهرولة بحماس وجد شديدين نحو التطبيع العلني مع العدو، كما هو السبب أيضًا للاستغراب من وضع طائفة لبنانية رهانها كله في السلة الصهيونية.
الرابح الأكبر من إثارة قضية التطبيع في لبنان بهذا الشكل هو العدو الصهيوني، ولا غيره، من جهة يريد كسر الالتفاف الشعبي حول المقاومة وقرارها التاريخي بشأن ثروة الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، ومن جهة أخرى يريد إشعال فتنة يدفع الجميع أثمانها الباهظة، دون أن يتكلف العدو شيئاً.
أن يظن شخص أن الدعم ـ أو الوعد ـ الخارجي قادر على قلب الحقائق أو شرذمة وطنه، فهذا هو الإثم بعينه، ووضع جهة ما كل أوراقها للدفاع عن متهم بالخيانة أو التطبيع، فهذا غباء مطلق، والمستقبل بالتأكيد ليس للأغبياء.