عيد الغدير امتداد للرسالة الالهية
عيد الغدير هو تمثيل حقيقي لإكمال الدِّين وإتمام النِّعمة وتبليغ الرسالة، يلقي بثقل معانيه وإيحاءاته على المسلمين كافّةً، لجهة تحمّل المسؤوليات تجاه أصالة دينهم في حفظ مفاهيمه وروحه، ومعرفة الحقّ واتّباعه، ومراعاة أُصول وحدتهم، صوناً للإسلام من الضياع والتشتّت. وإنّ القراءة الهادئة والموضوعية لسيرة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، تبيِّن عظمة هذه الشخصية الرسالية الإسلامية، وحجم عطاءاتها وتضحياتها، في سبيل حفظ رأس الإسلام من السقوط، ونبذه لكلّ المصالح والأهواء والمطامع الدنيوية، وهو القائل: «لأسلمنّ ما سلمت أُمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة». إنّه عيد للإسلام والمسلمين، عندما وضعت الرسالة في أيدٍ أمينة مجاهدة مخلصة لله، ساعية للقرب من مواطن رضاه، عاملةٍ في سبيل نصرة الحقّ والمظلومين، وإعلاء كلمة الله وزهق الباطل.
وهذا هو الإمام عليّ (عليه السلام) الذي يصنع حضارةً وتقدّماً، وينقلنا من ضيق الأُفق إلى رحابته، ويرفع من مستوى وعينا في تحمّل المسؤوليات، ولعب الدور الطبيعي في البناء وإحياء النفوس وعمران البلاد. فعليّ (عليه السلام) ليس إماماً لمذهب معيّن، فهو إمام للمسلمين كافّةً وللإنسانية جمعاء، وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة.. ففي الثامن عشر من ذي الحجّة، نلتقي بذكرى الغدير، حيث وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) راجعاً من حجّة الوداع في غدير خمّ، فقال فيما قال: «يا أيّها الناس، إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفُسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ـ يعني عليّاً ـ اللّهُمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه».
الإمام عليّ (عليه السلام) هو القدوة في كلّ ما انفتح عليه في حركة العلم والإرادة والإخلاص للإسلام والمسلمين، وهو الذي قال: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يُفتح لي من كلّ باب ألف باب».. وفي ضوء ذلك، نتعلّم من الإمام عليّ (عليه السلام) خطّ الوحدة الإسلامية، لننفتح على مَن نختلف معه بالحوار، ولنؤكّد ما يجمعنا، في سبيل حفظ الإسلام في مواجهة التحدّيات التي تعصف اليوم بالأُمّة، ولا تفرّق بين مذهب وآخر، ولا بين مُسلِم ومُسلِم.. فإنّ عليّاً (عليه السلام) يمكن أن يكون رمز وحدتنا الإسلامية، لأنّ المسلمين جميعاً لا يختلفون على احترام الإمام عليّ (عليه السلام) وتقديمه على غيره لما يملك من مكنونات العلم الذي لا ينتهي.
وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور معه كيفما دار». إنّ التزام الإمام عليّ (عليه السلام) بالحقّ، كان الحجّة على الناس في كلّ زمان ومكان، كي يلتزموه في أقوالهم وأفعالهم، ويعيشوه فكراً وممارسةً تؤكّد شخصيتهم الإيمانية والرسالية في الحياة.
واقعة الغدير في كتب أهل السنّة والجماعة
إذا كانت واقعة غدير خم قد وردت في بطون مئات الكتب الشيعية الإمامية، فإنها وردت أيضاً في طيات العشرات من مصادر أهل السنّة والجماعة، سواء الكتب التاريخية منها أو كتب المتون الحديثية.
بحسب ما هو معروف، فإن المؤرخ السنّي ابن جرير الطبري (ت. 310هـ) جمع الطرق المختلفة لحديث الغدير، وصححه، وكتب في ذلك كتاباً كاملاً من مجلدين، وعرّضه هذا لغضب ونقمة الحنابلة الذين حكموا بتضعيف هذا الحديث في القرن الرابع الهجري، حسبما يذكر شمس الدين الذهبي (ت. 748هـ) في كتابه "طبقات الحفاظ".
في ما يخص المدوّنات الحديثية المهمة والمعتبرة عند أهل السنّة، نجد تبايناً عظيماً في تعامل أصحابها مع واقعة الغدير. على سبيل المثال، تغافل المحدّث الكبير محمد بن إسماعيل البخاري (ت. 256هـ) عن ذكر تلك الواقعة بشكل كامل في صحيحه المشهور، في حين تعرض لذكرها على نحو مقتضب في كتابه الأقل شهرة، والذي لم يشترط فيه الصحة، "التاريخ الكبير".
أما في ما يخص المحدث مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت. 261هـ)، فقد ذكر شطراً من واقعة الغدير، دون أن يذكر الشطر الآخر، وذلك عندما نقل عن الصحابي زيد بن أرقم قوله "قام رسول الله يوماً فينا خطيباً، بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي".
لما كانت روايات الغدير قد انتشرت بشكل كبير في المصادر السنّية، احتاج العقل السنّي الجمعي لإيجاد تأويلات مختلفة لشرح وتفسير تلك الحادثة، بحيث يتخلص من الإلزام الذي يُفهم منه حتمية الاعتقاد بإمامة علي بن أبي طالب
وذكر الإمام أحمد بن حنبل (ت. 241هـ) واقعة الغدير بشكل مختصر، بعد أن ضمنها في سياق مختلف عن السياق الذي وردت فيه الروايات الشيعية، إذ نجده ينقل عن الصحابي بريدة بن الحصيب الأسلمي قوله "غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله، ذكرت علياً فتنقصته فرأيت وجه النبي يتغير، فقال يا بريدة: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: مَن كنت مولاه فعلي مولاه". وهكذا يظهر الخطاب النبوي في الحديث على كونه خطاباً موجهاً إلى شخص بعينه، وليس خطاباً جماعياً موجهاً لعموم المسلمين.
مع ذلك، وردت روايات الغدير بشكل أكثر اقتراباً من الروايات الشيعية في عدد من المتون الحديثية السنّية الأقل أهمية، ومنها على سبيل المثال كل من سنن ابن ماجة (ت. 273هـ)، وسنن الترمذي (ت. 279هـ)، السنن الكبرى للنسائي (ت. 303هـ)، والمعجم الكبير للطبراني (ت. 360هـ)، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ت. 405هـ). كل تلك الطرق والشواهد دفعت بالمحدّث السلفي المعاصر ناصر الدين الألباني، لتأكيد القول بصحة هذا الحديث، في كتابه "سلسلة الأحاديث الصحيحة".
مظاهر الاحتفال بالعيد
تختلف مظاهر الاحتفال بعيد الغدير الأغر في العالم المعاصر، من مكان إلى أخر ومن بلد إلى أخرى، بحسب التباين في حجم وتأثير الوجود الشيعي وبحسب الظروف السياسية القائمة في كل مجتمع.
في إيران، تُمارس طقوس الاحتفال بالعيد بمنتهى الحرية وسط تشجيع وتحفيز من السلطات القائمة، حيث تتم زيارة المقامات والعتبات المقدسة، وتُؤدى بعض المشاهد التمثيلية في المسارح العامة والشوارع، والتي تُظهر كيفية مبايعة علي بن أبي طالب في غدير خم، كما أنه من المعتاد أن يجتمع الأهل والأصحاب والمعارف عند أحد السادة، المنحدرين من نسل الرسول، حيث يتم قراءة القرآن وتقديم الحلوى والأطعمة.
أما في العراق، التي يُمثل الشيعة فيها ما يزيد عن 60% من مواطنيها، فإن الكثير من الشيعة يحتفلون بالعيد من خلال زيارة مدينة النجف الأشرف، وتوزيع الزهور والورود التي يحملونها لضريح الإمام الأول، كما أنه من الأعمال الدينية المستحبة في هذا اليوم، الصوم وقراءة دعاء الندبة. كما يتم الاحتفال بعيد الغدير الاغر في مختلف بلدان المنطقة والعالم.
نهنئ العالم الاسلامي بذكرى عيد الغدير الاغر يوم التمثيل الحقيقي لإكمال الدِّين وإتمام النِّعمة وتبليغ الرسالة