درس البطولة والثورة الإسلامية
أحمد فؤاد
يجادل الكثير من الناس في حقيقة دور الفرد البطل عبر التاريخ، مؤمنين أن العوامل الموضوعية للأطراف الفاعلة هي وحدها القادرة على تغيير المسار أو رسم حدود الدور، وصنع خريطة الحركة وبالتالي خلق التأثير المطلوب، لكن اللحظات المفصلية في تاريخ المنطقة لا تبدو متفقة مع هذه الفرضية بالضبط، إذ نهض أبطال اللحظة المناسبة لترجمة الرصيد النضالي لشعوبهم إلى طريق جديد بالكامل.
وكما يُعرّف الفيلسوف الإسكتلندي توماس كارلايل، "الفرد البطل" في كتابه الأبطال والبطولة في التاريخ، فإن روح تاريخ العالم تتمحور حول الرجال العظماء، صنّاع النماذج والرؤى والأفكار، وأن التغيير الذي يضرب المجتمعات هو نتاج للإدراك العملي والتجسيد الحي للفكرة التي آمن بها هذا الفرد البطل، وقدرته على توصيلها إلى أكبر عدد ممكن من الناس، الذين بدورهم ينتظرون الإلهام في اللحظات الحاسمة، وذهب كارلايل إلى الحد الذي دعا فيه لدراسة شخصيات العظماء، إذ تنعكس على اكتشاف الإنسان لقدراته وملكاته والاستفادة منها على أفضل نحو.
والفرد البطل في وجود العوامل الموضوعية لدى مجتمعه للتغيير، يشبه شعاع البرق السماوي الخاطف، الذي يضرب في لحظة مجتمعًا كاملًا مستعدًا للحركة، كوعاء متفجر، فتنطلق شرارة تجبر التاريخ على التوقف والانتباه، قبل أن يستعيد حركته، لكن في اتجاه آخر ومختلف.
من هذه النقطة تحديدًا، تبقى قراءة ما جرى بطهران 1979، حين خطا الإمام القائد روح الله الخميني على سلم الطائرة عائدًا إلى إيران، وتداعياته المستمرة على ما يقع هنا في قلب العالم العربي، أحد أسباب فهم الصورة الكاملة، باستعادة واحد من أهم مشاهد القرن، ويبقى التركيز عليها مطلوبًا وسط زحام الحوادث الحالي، كما أن رصد نتائجها ضروري للفهم وسلامة الحسابات والمواقف.
ما بعد نزول الإمام، وطي صفحة الشاه والماضي كله، خاضت الثورة عصرًا فوارًا بالأحداث والتغيرات الكبرى، وقد صنعت الثورة الإسلامية بنجاحها المبهر وتصميمها الأكيد مع زلازل المنطقة وعواصفها، واحدة من أكثر فترات الشرق الأوسط حيوية وخصوبة، وعقب ما يزيد عن أربعة عقود من الثورة، فإن المستقبل الذي منحتنا آماله ظلًا غير ظاهر، بدا ينكشف حين جاءت الشمس وصار حاضرًا معاشًا وواقعًا كاملًا.
لعل هذا المشهد المطلوب هو ما استحوذ على أهم محاور لقاء الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، لمناسبة انتصار الثورة الإسلامية، مع قناة العالم، وقد أضاء فيه سيد المقاومة على دروس تتجدد وآمال كبار تزهر، هناك بعيدًا في طهران، وتقترب منا بقدر ما نجيد قراءتها أو قطف ثمرها الطيب، والإصرار على الموقف المقاوم المستعد والمقاتل الصابر، والموقف في ذلك كله اقتداء بأنبل وأعذب لحظات تاريخنا الإسلامي وأكثرها إلهامًا، في كربلاء.
وعلى امتداد أكثر من ساعتين، أطل علينا سيد المقاومة، في واحدة من أهم لقاءاته بالسنوات الماضية، وكلها غنية وفاصلة، وكعادته بعبارات بليغة وألفاظ لا تحتمل التأويل أو الشك، شرّح وكشف وأوضح وبيّن المواقف والسياسات في ذكرى انتصار الثورة، في وقت تبدو فيه التصرفات والتكتيكات غامضة، ووضع نقاطا لازمة على المطلوب من المقاومة والواجب على بيئتها ومحبيها، على امتداد الوطن العربي كله.
ما فصله سماحة السيد من نتائج لانتصار الثورة كان يدور حول محورين، الأول المحور المادي، والذي يقيّم النتائج والتضحيات بالأرقام والعوائد، وهو بالتأكيد أحد عناصر معادلات الحساب اللازمة لحياة الشعوب وضمان استمرارها، وأسلوب للحكم على السياسات التي اتبعتها الثورة، منذ لحظة الانتصار، وإلى اليوم، أي 43 عامًا كاملًا من الجهد والكد والنضال.
كان حديث سماحة السيد يلخص المسألة برمتها، حين قال: "إيران في زمن الشاه وإيران اليوم"، كشف حساب يخضع النتيجة للحكم والفحص، والمسيرة المذهلة بكل ما حملته وقدمته من تضحيات كانت مثمرة في نهاية الشوط، وبالأرقام التي يقول العالم إنه يحترمها ويعترف بها، أرقام الأمم المتحدة التي تكشف عن نموذج فريد وإنجاز متحقق على أرض الواقع، في الدولة الإسلامية، من حيث العلم والعمل ووضع الأسس اللازمة لتطور دائم لا ينقطع، يستفيد من الواقع وإمكانياته، قبل أن يطمح إلى تغيير السلبيات وإزالة العوائق.
الحديث عن إنجاز تحقق بعد الثورة الإسلامية كان لازمًا ومطلوبًا، في مواجهة الطرف الآخر، والحديث عن حكم موضوعي كان ضروريًا أمام طرف امتهن الخيانة والارتماء في حضن كل عدو، يثير الشك ويحيد المناورة والمساومة، وهو محترف للغاية في خلط الأوراق، وكسر ثقة كل إنسان في وطنه وفي نفسه، وصولًا لمنح العدو صك التسليم الكامل غير المشروط.
أما عن فلسفة الثورة ذاتها، فإنها قدمت لنا -على المستوى الإيماني- ما يمكن اعتباره المثل والقدوة والنموذج، المثل حين يصدق والقدرة يدعمها الإصرار الكامل، والنموذج الذي ينجح ويغازل الشعوب والنفوس، مسترشدًا باللحظة الفارقة حين هبط الإمام بمطار طهران واستقباله المليوني غير المسبوق، ثم خطابه في جنة الزهراء(ع)، وكأن ما كان بين الإمام والثوار هو عهد الصدق بصناعة عصر جديد، بكل ما تعنيه الكلمة لبلدهم وأمتهم.