الخطاب الإعلامي ما بعد "الطيونة": ارتباك ووقاحة
ليلى عماشا
إن كان استهداف أهل المقاومة قد بلغ ذروته التي تُرجمت رصاصًا غادرًا يستهدفهم في الطيونة، فإن الإعلام الذي يستهدفهم منذ سنوات لم يجد مستقرًا له بعد في حضيض الكذب والتضليل وتبرئة القاتل المشهود أو التسويق لمبرّرات له. ولعلّ تبرير الجرم يعادل الرصاص في القدرة على القتل، وكلاهما يقف خلفهما قنّاص واحد، لا يجيد المواجهة، ويسقط مع كلّ طلقة، من بارود أو من "حكي" قتيل حقده والأكاذيب.
منذ سماع أولى طلقات الرصاص في الطيونة وهي تنهمر على رؤوس المتظاهرين العزّل، أمكننا سماع الغدر الإعلامي في التغطيات المباشرة التي حاولت تكذيب عيون الناس التي شهدت الاعتداء، وسمّته اشتباكًا كي تضمن للقتال مجالًا يناور فيه لإثبات براءة كاذبة من دمنا المسفوك.
وكما لم يستحِ القناص من هيبة مريم فرحات على شرفة منزلها، لم يستح الإعلاميون وكلّ من جرى تطعيمه بلقاح شيا من حزن الناس ومن مظلومية الدم الذي غُدر به. وواصلوا منذ اللحظة الأولى للمجزرة كيل السموم والأكاذيب على مشهد من فرط وضوح أحداثه، يصفع العين بحقيقة ما جرى، دون أيّ حاجة لتحليلات أو سيناريوهات متوقعة.
لعبة التضليل التي امتهنها بعض الإعلام اللبناني، ويمارسها بشكل يفضح به نفسه لشدّة ركاكتها، لم تبدأ مع مجزرة الطيونة، بل سبقتها بزمن طويل، وبشكل أو بآخر هيّأت لها أرضية تجعلها، بكلّ بشاعتها، تبدو مقبولة في عيون البعض.
بعيدًا عن الخوض في أسماء إعلامية اعتدنا تبنّيها لكل سردية تعادي المقاومة، وأخرى ملّت تغليف عدائها بالجمل الإنشائية المؤثرة ذات الطابع "الوطنجي" وآثرت الخروج من زيّها اللغويّ التنكري بوجه جفّت فيه ماء الحياء بما يكفي لتعادي الفطرة وتستخفّ بالوعي وبالعقول، وبعيدًا عن مناقشة الخلفيات التي تفسّر موقف كلّ إعلاميّ أفرغ نفسه من مضامينها لتتسع فقط لما يرد في قصاصة التعليمات اليومية الصادرة من وكرِ عوكر، يبقى محزنًا إلى حدّ بعيد أن لا يستحي هذا الجمع المسيّر ويصمت أمام هول المجزرة. فهم وإن كانوا غير مطالبين بموضوعية يعجزون عنها، يبقون في عداد الذين يُفترض بهم أن يصمتوا في حضرة الموت والظلم المشهود، احترامًا لأنفسهم ولمهنتهم بالدرجة الأولى.
لا شكّ بأن إعلام عوكر واجه ارتباكًا شديدًا في كيفية تحرير أخبار المجزرة بشكلٍ يدين الدم المظلوم ويبحث عن مبرّرات للقاتل المعروف. وأمام الارتباك لم يكن الصمت المحترم خيارًا لمن باعوا نفوسهم لتحيلها عوكر أصواتًا تنطق بما تشتهي السفارة، ولو كذبًا مكشوفًا وتضليلًا صريحًا، فذهبوا إلى الوقاحة، إلى التمادي في الكذب والتضليل وتحوير الحقائق وتسليط الضوء على كلّ ما يحجب الحقيقة المرئية.
من نشرة إخبارية يقول فيها مذيع باسمٌ، على غير عادته "القناصون، إذا وُجدوا" إلى برنامج ساخر تعمد مقدّمته بسوقية منفّرة إلى تركيب سيناريو يجعل من الاعتراض القانوني على أسلوب عمل المحقّق مبرّرًا منطقيًا للقتل. ومن محاور كثرت فضائحه يستضيف القاتل ويجتهد لإظهاره بطلًا إلى آخر يستميت في مساعدة ضيفه على النطق بجملة صحيحة واحدة تصحّ عنوانًا للقاء.
المؤسف ليس في أن هؤلاء لم يستحوا ولم يحاولوا ولو شكليًا الحفاظ على شرف مهنتهم ولم يسعوا لاحترام عقول مشاهديهم، فهذه عاداتهم وهذا سرّ تقاضيهم لأجورهم، المؤسف فعلًا أن لم يقم حتى الساعة من يطالب بالتحقيق معهم في ما ارتكبوا من كذب واضح تحت مسمّى حرية التعبير، وفي ما ارتكبوا من تحريض سبق الجريمة، وتبرير واكبها وغطّاها وبرّرها وأرادها مقدّمة لفصول جرمية تالية.
بكلمات قليلة، صوت الرصاص الذي ما زال يخترق آذان قلوبنا منذ يوم خميس الطيونة إلى اليوم كان ليصبح أقل تجريحًا لو لم تنضم إليه وتعاونه أصوات تسمى بالإعلامية، وما هي إلا صدى هلوسات القاتل المباشر وتعليمات المحرّك الشيطاني المتمثّل دبلوماسيًا في عوكر.