لبنان .. الخطوط الحمر
إيهاب شوقي
من النادر تاريخيًا أن تجتمع عدة صفات تشكل عنوانًا عامًا للقيادة وهي عكس التيار السائد للمكونات الفكرية والسلوكية للقوى السياسية، بل وقطاعات لا يستهان بها من الجماهير التي تشكل وعيها عبر إعلام دولي مغرض يضع أسسًا وتعريفات تخدم مصالح القوى الكبرى، بحيث يصبح ما يخالفها شاذًا ومنبوذًا.
وحالة السيد نصر الله التاريخية، هي واحدة من هذه الحالات النادرة، والتي اجتمعت بها صفات القيادات الدينية في عصر يعتبر الدين تخلفًا ورجعية ويخلطه عمدا مع الارهاب الذي يتستر بالدين لقطع الطريق على النهج الديني التقدمي المقاوم.
واجتمعت به صفات القيادة السياسية الكاريزمية، في عصر يكاد يخلو من هذا النوع من القيادات، حيث يسيطر على أغلبه قيادات توصف بالبرجماتية من معدومي التوجه السياسي وأصحاب الزعامة والجاذبية والمراد لهم أن يكونوا أدوات إقليمية ودولية، سواء بالتبعية أو المهادنة واللعب على الحبال والتناقضات.
كما اجتمعت به صفات الحكماء من حيث البلاغة والمنطق والحجة وحمل مشعل القيم والإخلاقيات، في عصر لا يعترف سوى بالمصالح وتسيطر عليه النفعية ومنطق عدم التقيد بالوسائل مهما كانت طالما تبررها الغايات.
هذه القيادات شاءت الأقدار أن تبرز في بؤرة مليئة بالألغام والحمقى إقليميًا وداخليًا، وهو ما تحول من كونه تهديد إلى فرصة لإثبات جدارتها وأحقيتها وأهليتها، حيث استطاعت عبور الكثير من المحطات الصعبة والمليئة بالفخاخ، بصبر وحكمة وشجاعة، وكان سلاحها الأبرز هو المصداقية والشرف والأخلاق الرفيعة.
ولعل السيد نصر الله قد وضع خطوطًا حمراء، شكلت قواعد اشتباك مع العدو، ولم تكن لتتشكل إلا بفضل الشجاعة والفداء من جانب، والمصداقية والجدية من جانب آخر، وهو ما يجعل كلمة السيد لدى العدو معلومة لا شعار، وتقدير موقف عسكري لا تمويه أو حرب نفسية.
بينما تعامل السيد مع الداخل بمنطق آخر، أكثر لينا واتساقا مع طبيعة الجبهة، فهي جبهة وحدة وطنية لا جبهة مواجهة، وهي وطن ودولة مهما كانت مهترئة ومخترقة، لا صراع مع استعمار وان كان للاستعمار أدواته بالداخل.
هنا تعاملت القيادة بما يتسق مع الوطن، فلم تضع خطوطا حمراء بل سعت إلى خطوط للتلاقي والاتفاق، ولم تضع قواعد للاشتباك، لأن الاشتباك الداخلي ليس على أجندتها من قريب أو بعيد.
وربما هذه الأخلاقيات، قد ولدت الطمع لمن في قلوبهم مرض، وإكرام اللئام قد جعلهم يتمردون كما تقول الحكمة الشهيرة، وهو ما شكل خطورة حقيقية، لا على المقاومة، بل على الوحدة الداخلية والسيادة والسلم الأهلي.
وصبر المقاومة وبصيرتها منبعه المصلحة، ولا ينفذ هذا الصبر إلا حينما تصبح المصلحة مهددة بتجاوز الحدود والتمادي في الحمق والعدوان، وهو ما كان وراء النبرة العالية لخطاب السيد نصر الله واستعراضه لعدد وعدة المقاومة، قطعا لطريق الأوهام والمؤامرات التي تسعى لتدشين مسار مناقض للمسار الذي صبرت المقاومة وتحملت لإكماله ودفعت الكثير من الأثمان وكظمت الكثير من الغيظ، كي لا تخرج عنه أو تحيد.
ما تسعى إليه المقاومة هو الوحدة الوطنية والتنمية والعيش الكريم وتوفر الظروف الداخلية الملائمة لحماية الوطن من عدو متربص بكامل محور المقاومة وتحديدا حزب الله، وهو ما ينبغي أن يتفرغ الحزب له ولمواجهته وتثبيت قواعد الاشتباك معه، بل والاستعداد لكونه فصيلا من فصائل معركة التحرير الكبرى لإزالة هذا الكيان الغاصب.
بينما ما يريده العدو هو إشغال الحزب بمعارك داخلية ويساعده على ذلك قوى إقليمية لا تمانع من وجود العدو الصهيوني والتعاطي معه بمنطق الشراكة، والهدف هو إخلاء المنطقة من المقاومة ومنطقها والذي يعيق استئثار الملوك والطبقات الحاكمة بثروات الشعوب والتسلط عليهم دون معارضة أو خروج من عباءة العبيد.
هنا يتلاقى المنطق التاريخي للملوك والمستعمرين، ومن المفترض في هكذا صراع، أن يتلاقى المنطق التاريخي للشعوب المضطهدة والمستضعفة مع المقاوة ومحورها.
وهنا وضع السيد نصر الله خطوطه الحمراء للعدو وهي قواعد الاشتباك المعلنة.
ووضع مؤخرا السيد خطوطا حمراء للداخل أيضا، وهي ما يمكن رصده من خطابه المفصلي الأخير كما يلي:
أولا: عدم التفريط في حقوق الشهداء والجرحى واتباع مسار القضاء واحترام الدولة أولا، حتى إشعار آخر يقول أن الدولة عاجزة، وفي هذه الحالة لكل حادث حديث.
ولعل مصداقية المقاومة في كسر حصار الطاقة كان مصداقا، فقد انتظرت الحل، ثم تصرفت بنفسها عند الوثوق بالعجز الداخلي وعدم القدرة على كسر الحصار، وهو ما يجب أن يتأمله الداخل جيدا.
ثانيا: عدم الرهان على حرب أهلية لأنها لن تستنزف المقاومة أو تضعفها، ولكنها ستقضي فقط على البقية الباقية من دولة لبنان، وهو منبع الصبر والتحمل والذي له سقف يتعلق بتجاوز الحمقى لمديات تهدد بالفعل كيان الدولة اللبنانية وتصبح معها مؤسساتها بلا جدوى.
ثالثا: الأدب مع المقاومة، وهو ما يشي بأن سوء الأدب والاستفزازات أصبحت من المهددات ولم يعد تمريرها مقبولا لأنها تقود إلى أخطاء واستفزازات قد تفجر الغاما ظلت المقاومة تجاهد كي لا تنفجر.
رسائل السيد نصر الله ينبغي تلقيها بجدية وتأمل ودراسة، من مؤسسات الدولة اللبنانية والقوى الداخلية والشعب اللبناني بجميع مكوناته، ومن القوى الإقليمية ورعاة الحمقى، وذلك لأنها أولا، جدية وليست مراوغة، فهذا ليس منهجه، وثانيا، لأنها تحمل أجندة انقاذ البلاد والمنطقة من انزلاقات سيطال أثرها الجميع.