"إسرائيل" قَلِقَة !
أليف صباغ
القلق هو العنوان الدائم في الذهنية الإسرائيلية، لأنه عامل يُوحّد القَلِقين، ولا يترك لهم مجالاً للتفكير في خلافاتهم واختلافاتهم.
لا تفتح صَفحات الأخبار الإسرائيلية صباحاً إلاّ وتقرأ خبراً يقول إن "إسرائيل قلقة من كذا"، أو "حكومة بينيت قلقة من..."، وهذا ليس جديداً، بل يميّز "إسرائيل" وحكوماتها منذ احتلالها فلسطين و"إقامتها" في هذا الشرق. فهل هي قَلِقة فعلاً؟ وماذا يُقلقها؟
القلق هو العنوان الدائم في الذهنية الإسرائيلية، لأنه عامل يُوحّد القَلِقين، ولا يترك لهم مجالاً للتفكير في خلافاتهم واختلافاتهم، واتّخاذ إجراءات نابعة من الاختلاف أو الخِلاف. لذلك، تسعى كل حكومة لدى الاحتلال الإسرائيلي لأن تُبقي الجمهور الواسع قَلِقاً من عدو داخلي أو عدو خارجي، من خطر مُحتمَل، أو خطر مُقدَّر، أو حتى من خطر مستقبلي. المهم أن يبقى الجمهور قَلِقاً وخائفاً من أجل ضمان التلاحم الذاتي، والاستعداد الدائم لمواجهة الخطر الخارجي.
هذا هو نهج المؤسَّسة الصهيونية منذ نشأتها حتى اليوم، وستبقى الحال كذلك إلى أن تحين الساعة. ومع ذلك، نقول إن حكومة الاحتلال الإسرائيلي، برئاسة نفتالي بينيت، قَلِقة فعلاً، وليس تضليلاً إعلامياً، من احتمال سقوطها، لأن وجودها هشّ أصلاً، وتتعامل مركّباتها، بعضها مع بعض، بكثير من المرونة والتنازلات المتبادَلة، وأحيانا تستخدم بنيامين نتنياهو بُعبُعاً، من أجل المحافظة على الحكومة.
قلق من انفراج العلاقات السورية الأردنية
"إسرائيل قَلِقة" من الانفراج في العلاقات السورية الأردنية. كيف يحدث ذلك؟ تساءل معلّقون إسرائيليون، مع أن الأردن كان يحتضن غرفة العمليات العسكرية، "الموك"، ضدَّ سوريا. وتعود الصحافة الإسرائيلية لتذكّر بتصريحات الملك الأردني عبد الله الثاني ضد الرئيس الأسد، وتفاعل الطيران الأردني مع المخطط، عام 2016، من أجل قطع الطريق بين سوريا والعراق... إلخ. هذا التذكير لم يكن إلاّ ليشير إلى التغيُّر في الموقف الأردني، وهو ما يُقلق "إسرائيل".
ليس هذا فحسب، بل خرج موقع "مكور ريشون"، يوم 12/10/2021، بعنوان رئيسي يقول "تقارب مقلق بين الأردن وإيران". ماذا حدث ليُقلق "إسرائيل"!؟ محادثة هاتفية بين وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، أبدى خلالها الوزير الإيراني تقدير بلاده للدور الأردني في حماية الأماكن المقدَّسة الإسلامية في القدس المحتلة (على الرغم من تقصير الأردن وعجزه اللَّذَين يهدّدان مستقبل القدس المحتلة، في رأينا). كما تبادلا، خلال المحادثة الهاتفية، أمل بلادهما في عودة العلاقات بينهما، وتعزيز التعاون الاقتصادي، والعمل المشترك من أجل تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط. فهل يوجد في مضمون هذه المحادثة ما يدعو "إسرائيل" إلى القلق؟!
الأردن وقّع مع "إسرائيل" اتفاقية وادي عربة، عام 1994. وبموجبها، لا يحق للأردن بأن يسمح لأي جيش أجنبي بمهاجمة "إسرائيل" من أراضي الأردن أو أجوائه. وفي كانون الثاني/يناير 2021، وقَّع الأردن اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة، يسمح بموجبها الأردن لأميركا وحلفائها (يعني "إسرائيل") بأن يُدخلوا قوات أميركية أو حليفة راجلة أو محمولة، وعتاداً عسكرياً من كل الأنواع، وطائرات حربية، بحُريّة تامة، ومن دون اعتراض أيّ جهة أردنية. وإذا وقعت مخالفات من جانب الجيش الأميركي، فلا يُسمَح للهيئات القضائية الأردنية بمحاكمة المخالف. ومع ذلك، فإن "إسرائيل" "قَلِقة" من أي "تقارب" أردني إيراني! وهو مجرد محادثة هاتفية بين وزيري خارجيتَي البلدين، وفق ما جاء في موقع "مكور ريشون".
ولم تتضمّن المحادثة أيّ ذكر لدخول قوى عسكرية إيرانية للأردن، أو إلى تعاون في المجال النووي، باعتبار أن الأردن يمتلك مناجم يورانيوم تستغلها فرنسا، ولا يحق للأردنيين الاقتراب من تلك المناطق.
كما لم تتضمّن المحادثة أيَّ كلمة عن تعاون عسكري أو أمني استخباريّ! لكن يبدو واضحاً أن مجرد الحديث، ولو كان هاتفياً، عن التعاون الاقتصادي، يُقلق "إسرائيل". ودعم إيران أيَّ جهد أردني في المحافظة على المقدَّسات الإسلامية في القدس المحتلة، يُقلق المستعمر الإسرائيلي!؟ لأن مجرد الاستقرار والتعاون بين دول المنطقة وإيران يُقلقان "إسرائيل"، لأنهما قد يعطّلان مخطَّطاتها الاستراتيجية؟
قلق من التقارب السعودي الإيراني
ليس هذا فقط ما يُقلق "إسرائيل"، بل يُقلقها "التقارب بين إيران والسعودية". هذا التقارب الذي قد "يفكّك الائتلاف ضد إيران"، وفق ما جاء في موقع "هآرتس" (13/10/2021). "إذا انتهت المحادثات بين إيران والمملكة العربية السعودية باتفاق تطبيع العلاقات بينهما، فسيكون هذا هو نهاية الائتلاف المعادي لإيران في المنطقة، والذي بنت عليه إسرائيل جبالاً وقِمَماً، حتى إنها رأت نفسها عضواً رسمياً فيه"، يقول الكاتب، ويضيف "أن إزالة الحواجز بين السعودية وإيران من شأنها أن تشجع دولاً عربية أخرى على أن تتواصل معها أيضاً". ويستشهد الكاتب بما قاله وزير الخارجية الأردني في أعقاب محادثته مع نظيره الإيراني، وحديثه عن أن "العلاقات الطيبة بإيران هي مصلحة أردنية مهمة جداً". وهذا أيضاً "مقلق" لـ"إسرائيل".
قبل المحادثة الهاتفية المذكورة أعلاه، قام وزير الخارجية الإيراني بزيارة مهمة جداً لبيروت، التقى خلالها رئيس الدولة العماد ميشال عون، وقدم إليه اقتراحات كريمة بشأن إقامة محطات لإنتاج الكهرباء في لبنان، وإعادة بناء المرفأ، ومشاريع اقتصادية أخرى من أجل مساعدة لبنان، ثم التقى رئيسَ الحكومة الجديد، نجيب ميقاتي، والسيدَ حسن نصر الله أيضاً. وهذا أيضا مقلق لـ"إسرائيل". ومن أجل خلق الارتباك في صفوف اللبنانيين، أوعز مَن أوعز إلى إيهود يعاري في أن يقول إن "الغاز الذي سيصل إلى لبنان من مصر هو غاز إسرائيلي". وهي الرسالة التي التقطها مروِّجو التطبيع مع "إسرائيل" ليدّعوا أن التطبيع معها يقوم بصورة غير مباشرة، فلماذا لا يكون مباشِراً وعلنياً، إذاً؟!
"إسرائيل" قَلِقة من الاعتراض الإيراني على وجود خلايا لـ"الموساد" في شمالي العراق، تعمل ضد إيران والعراق، على حد سواء، ومسؤولة عن أعمال إرهابية ارتُكبت ضد مؤسسات وشخصيات إيرانية وعراقية.
"إسرائيل" قَلِقة حتى من انتخابات عراقية هادئة، يشارك فيها الكُرد على قدم المساواة مع المُرَكّبات الأخرى للشعب العراقي، ويَدْعون إلى الوحدة الوطنية بعيداً عن الطائفية. لذلك، بادرت مع عملاء لها هناك، ومع قوى تدعو إلى التطبيع مع "إسرائيل"، وأخرى كردية تدعو إلى تقسيم العراق، إلى مؤتمر في إربيل يدعو إلى التطبيع مع "إسرائيل"، كما يدعو إلى تقسيم العراق، وفق المخطَّطات الإسرائيلية المعروفة. انتخابات هادئة في العراق، ومواقف وطنية بعيدة عن الطائفية ومناهضة للتطبيع مع "إسرائيل"، هي حالة مقلقة لـ"إسرائيل" فعلاً، ولا بدّ من مبادرات لخلق الفتنة من جديد. وهذا فقط ما يبدّد القلق الإسرائيلي.
قلق من إيران النووية
"إسرائيل" قلقة من الحملة السياسية الإيرانية ضد أذربيجان بسبب وجود خلايا "داعش" في أراضيها، بالإضافة إلى قواعد استخبارية عسكرية إسرائيلية هناك. "إسرائيل" قلقة لأنها تريد أن تعمل في أذربيجان ضدّ إيران، بحرية واطمئنان!!
"إسرائيل" قَلِقة من عودة أميركا القريبة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وتحاول، في كل الوسائل، تعطيل ذلك. وكشف وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي، في لقائه الأخير (13/10/2021)، الموقف الإسرائيلي الحقيقي. فـ"إسرائيل" لا تريد أن تكون إيران حتى عند "حافة دولة نووية"، ولا أن تمتلك القدرات النووية، وإن كان ذلك ليس سلاحاً نووياً. وهذا يؤكد ما قلناه وكررناه منذ سنوات، ومفاده أن ما يٌقلق "إسرائيل" ليس السلاح النووي الإيراني، وإنما امتلاك العلوم والتكنولوجيا والقدرات المالية، والتي تؤهّل إيران لأن تصبح دولة متقدمة. من هنا، ينبع "القلق" الإسرائيلي الحقيقي. فالحركة الصهيونية، في تياراتها المتعددة، ترى في الشرق الأوسط "المجال الحيوي" لـ"إسرائيل". وعليه، لا يجوز، وفق نظريتها هذه، لأي قوة سياسية في الشرق الأوسط، أن تمتلك العلوم والتكنولوجيا لمنافسة الهيمنة الإسرائيلية على "مجالها الحيوي" هذا، وخصوصاً إذا كانت هذه القوة السياسية تمتلك المال والقوى البشرية لفعل ذلك. من هنا، قام لابيد بحثّ مستشار الأمن القومي الاميركي، ساليفان، على تقديم خطة بديلة عن العودة إلى الاتفاق النووي، بالرغم من تأكيد ساليفان أن أميركا لن تسمح لإيران بامتلاك "السلاح" النووي، لأن الهدف من تقديم الخطة البديلة هو تعطيل المسار القائم للعودة إلى الاتفاق، وتخريب أيّ إمكان في الوصول إلى تفاهم للعودة إلى الاتفاق النووي مستقبلاً.
قلق من المقاومة الفلسطينية
"إسرائيل" لا تُخفي قلقها من أيّ اتفاق بين الفصائل الفلسطينية، كما أنها قلقة من قدرات المقاومة الفلسطينية في القطاع، وامتدادها في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهي قَلِقة من ممارسات أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تقوض نفوذ سلطة رام الله، كما صرح رئيس "الشاباك" المنتهية ولايته، رونين برغمان، عند تسليم المهمة إلى نائبه، رئيس "الشاباك" الحالي رونين بار. لذلك، تعمل مع الولايات المتحدة ومصر من أجل احتواء المقاومة الفلسطينية من دون أن تدفع ثمن ذلك عبر تحرير الأسرى الفلسطينيين. "إسرائيل" تريد هدوءاً في الجبهة الجنوبية، كي يتسنّى إتمام مخططاتها الاستيطانية في القدس المحتلة، وخصوصاً في تهويد الحرم القدسي الشريف من دون أن يتسبب ذلك برد المقاومة. وهذا يتطلّب مساعدة مصر لـ"إسرائيل". في المقابل، تسهّل "إسرائيل" مساعي مصر لكسب رضا البيت الأبيض، ومساعدة الأخير لمصر في صراعها ضد إثيوبيا بشأن سد النهضة.
"إسرائيل" قَلِقة من الموقف الأميركي الذي يُصرّ على أن الاستقرار في الشرق الأوسط، في غياب أميركا عنه، يتطلّب إقامة دولة فلسطينية، وفق مبدأ حل الدولتين، من دون الخوض في حدود هذه الدولة ومدى استقلالها وسيادتها. هذا الحل لا يجد في "إسرائيل" آذانا مُصغية من أجل مناقشته، ولاسيما أن الإدارة الأميركية ترى أن الفلسطينيين لن يقبلوا "حقوقاً اقتصادية وازدهاراً وأملاً"، كما يدّعي لابيد، وأن تعزيز "اتفاقيات أبرهام" يتطلّب انضمام السعودية إليها، وهذا الانضمام لن يحدث من دون قبول "إسرائيل" "حلَّ الدولتين".
أمّا انضمام السعودية إلى اتفاقيات التطبيع فهو الضمان من أجل منع التقارب بينها وبين إيران، ومنع تقارب دول عربية أخرى مع إيران. لكن "إسرائيل"، وفقاً للرؤية الأميركية، لا تريد أن تفهم هذه المعادلة، وتفضّل أن تبقى "قلقة" على الدوام.
"إسرائيل" تخشى ضغوطاً روسية لوقف الاعتداءات على سوريا، وتخشى تفاهمات أميركية روسية لتسوية الصراع في سوريا. قلقة من استعادة سوريا قوتَها، عسكرياً واقتصادياً، وبنيتها التحتية. قلقة من فشل حلفائها، أمثال "جبهة النصرة" وأخواتها، ومن استقرار الحالة في سوريا، سياسياً واجتماعياً، ووقف عملية الاستنزاف التي تريد "إسرائيل" استمرارها في سوريا إلى أَجَل غير مسمى. لذلك، تعمل حكومة نفتالي بينيت على الإسراع في خلق واقع جديد في الجولان المحتل؛ واقع يتضاعف بموجبه عدد المستوطنين عدة مرات خلال سنين قليلة، وهذا يتطلّب مشاريع اقتصادية، مخطَّطاً لها ومصادَقاً عليها، من أجل جذب المستوطنين إلى الجولان المحتل.
"إسرائيل" قلقة فعلاً من الاستقرار في إيران، ومن استعادة قوتها الاقتصادية وقدراتها على التطور، علمياً وتكنولوجياً، ومن كل استقرار وتقدم في المنطقة، ومن كل تعاون بين الدول العربية، ومن التعاون بين دول عربية وإيران. قلقة من تشكُّل محور إيراني عراقي سوري لبناني، يصل بين إيران والبحر المتوسط، حتى لو كان هذا المحور اقتصادياً فقط. قلقة من إعادة بناء مرفأ بيروت الذي ينافس مرفأ حيفا في شاطئ المتوسط، ويشكّل بديلاً أوفر وأسهل من مرفأ حيفا لدول الشرق الأوسط، التي تريد التواصل التجاري مع أوروبا. "إسرائيل" قلقة من فقدان هيمنتها على "المجال الحيوي" الذي خصّصه الاستعمار لها قبل "خلقها"، وأكد أنه هو ضمان وجودها وبقائها.
القلق هو الحالة التي تستخدمها "إسرائيل" داخلياً لتحشيد الرأي العام اليهودي ضد العدو الخارجي، وهو الأداة التي استخدمتها على مدى العقود السابقة لتجنيد الرأي العام الدولي معها، وتبرير كل عدوانيتها، بحجّة "الخوف" أو "القلق" و"الدفاع عن النفس".
هناك من العرب مَن يعتقد أن التقرّب إلى "إسرائيل" يُبَدِّد القلق الذي ينتابها بصورة دائمة. مخطئون وأغبياء هؤلاء العرب، فالتجربة التاريخية تؤكد أنه كلما اقتربت من "إسرائيل" في محاولة استرضائها، ازداد شعور المستوطنين الإسرائيليين بالاستعلاء، وازدادت أطماعهم التوسعية، لأن هذا القلق ليس حقيقياً، وإنما هو نهج سياسيّ تستفيد منه في كل الاتجاهات. وإن كان حقيقياً في ذهن البعض، فذلك إدراك لدى المعتدي، مفاده أن صاحب الحق، المعتدى عليه، لا بد من أن يقوم يوماً ما ليسترد حقه. من هنا، قالت غولدا مئير قولها الشهير "إن العربي الجيد هو العربي الميت". من هنا أيضاً، فإن القلق الإسرائيلي لا يزول إلاّ بزوال العرب من الوجود. وربّما يتوجّب زوال المسلمين أيضاً.