فلسطين دولة تعدّدية ديمقراطية
بشارة مرهج
بشكل منهجي ودوري تقتحم جماعات المستوطنين اليهود المسجد الأقصى المبارك وتنتهك أرضه وحصانته ومقدساته بالتزامن مع حصار دائم يشتدّ يوماً بعد يوم على القدس، وبخاصة على أهالي حي الشيخ جراح وحي سلوان، بهدف إرغامهم على مغادرة منازلهم والتخلي عن أراضيهم التي ورثوها عن الأجداد وعاشوا على خيرها مئات السنين.
وبشكل منهجي ودوري أيضاً تتوالى المواقف العنصرية العدوانية لقادة «إسرائيل»، غير مكترثة بحق أو مبدأ أو قيمة، والتي كان آخرها تصريح نفتالي بينيت، رئيس وزراء حكومة الكيان الغاصب، عندما أكد أنّ «إسرائيل» ستحتفظ بمرتفعات الجولان التي استولت عليها في حرب 1967 حتى لو تغيّرت المواقف الدولية تجاه دمشق. مضيفاً: «أنّ مرتفعات الجولان هي إسرائيلية وانتهى الكلام».
يجري كلّ ذلك من دون أن يبادر مسؤول كبير في المجتمع الدولي أو العالم العربي ليدلي برأيه الصريح تجاه هذه الأعمال العدوانية المتكررة التي تندرج في خطة تهويد القدس ومعالمها الدينية والتاريخية والثقافية، وفي طليعتها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومن دون أن يكلف نفسه الدفاع عن حقوق الإنسان التي تنتهك يومياً على أرض فلسطين كما جرى بالأمس مع الشيخ التسعيني الجليل عكرمة صبري خطيب المسجد الأقصى الذي يحوز على احترام ومحبة أهل فلسطين والعرب.
العتب الشعبي هنا لا يتوجه نحو الإدارة الأميركية التي احترفت تمويل الكيان الصهيوني وتسليحه وتشجيع مستوطنيه على انتهاك المقدسات والاستيلاء على أرض شعب له حضوره وحضارته وثقافته في العالم، فالإدارة الأميركية اختارت منذ زمن بعيد أن تكون بخدمة المشروع الصهيوني وتحت أمر أصحابه مهما تغطرسوا وكابروا ومهما كان الثمن، بل أنها أخذت على عاتقها الضغط المتواصل على العواصم العربية وجرها للتطبيع مع الكيان الذي استولى على فلسطين والجولان ومرتفعات شبعا وكفرشوبا، واعتدى على كلّ بلد عربي محيط بفلسطين وكبّده خسائر هائلة بقوة واشنطن والرأسمالية الغربية.
والعتب هنا، أيضاً، ليس وارداً بالنسبة للدول الكبرى المهتمة بمصالحها الذاتية والتي لها ما لها وعليها ما عليها، لكن العتب، وأكثر منه، وارد بالنسبة للأحزاب والمنظمات والأنظمة العربية، المرتبطة بالميثاق القومي، التي تسكت على الجرائم الفظيعة مع أنها تدرك تماماً معنى الأقصى المبارك ومكانته الراسخة في الذاكرة العامة والوجدان الجمعي للعرب في كلّ مكان.
فأي معنى لإيماننا وعروبتنا إذا رأينا الأقصى تجتاحه، كل هنيهة، جماعات عنصرية حاقدة على كل ما هو فلسطيني وعربي من دون أن نحرك ساكناً ولو بالكلمة وهذا أضعف الإيمان؟!
بل وأي معنى يبقى لإيماننا وعروبتنا إذا نحن تخلينا عن فلسطين وقدسها وشعبها المناضل الذي يُقهر ويُشرّد بالنيابة عن الأمة العربية بواسطة قوة عالمية وإقليمية تريد الشر للعرب وتريد نهب خيراتهم ومواردهم تحت عنوان الحداثة ومحاكاة العصر؟!
لن أستطرد في هذا الموضوع المتداخل مع ثنايا حياتنا وماضينا ومستقبلنا، نعم لن أستطرد في هذا الموضوع الخطير الذي يستأهل الصفحات والكتب والعرائض بعدما كنا نعتبره بديهياً واضحاً يتحدث عن نفسه بلا عناء أو افتعال. ولكن الزمن إذ يتغيّر بطغيان مراكز الرأسمالية الدولية والليبرالية المتوحشة مع مفاهيمها وقيمها التي تحتقر الإنسان الآخر وحقوقه، لا بدّ من التلخيص بعبارة واحدة: إنّ السكوت على الجرائم المتمادية بحق القدس لا يستوي مع عاداتنا وتاريخنا فضلاً عن أنه يشجع المعتدي على المضيّ في غيّه، لا بل في هذا الطريق الوعر الذي يسقط القيم والعهود من هذا العالم ويستولد الفتن والحروب.
فإذا اختار بعض العرب أن يطبّع مع كيان لا يعرف سوى التسلط والتمدّد، فإنّ البعض الآخر لا يريد ولا يستطيع أن ينحو هذا المنحى الذي يهدّد المصالح والهوية والمصير. هذا «البعض» ليس ضعيفاً أو متردّداً، بل يملك الإيمان والعزم للردّ على نفتالي بينيت ومواقفه الاستعمارية العنصرية، ويملك الرؤية والإرادة لاسترداد الحق المغتصب وزرع الراية العربية على ربى فلسطين. هذا «البعض» لن يسكت عن ذلك مهما كان الثمن ومهما طال الزمن. ومن كان مهتماً بمستقبل السلام ومهتماً بأمن أهل المنطقة، بغضّ النظر عن الهوية والدين، فلينصح الكيان الغاصب وقياداته، أو بالأحرى فليشارك في الضغط عليه للقبول بمنطق التاريخ وتحوّلاته ومآلاته التي تنذر بقيام دولة فلسطينية عربية محرّرة على أرض فلسطين لا مكان فيها للعنصرية، أو العداء، أو المستوطنين، دولة يعيش فيها الجميع على أساس المساواة والمشاركة والديمقراطية.