kayhan.ir

رمز الخبر: 138001
تأريخ النشر : 2021September21 - 19:50

بين "أوكوس" وشنغهاي: قراءة في تغيّرات النظام الدولي

 

    وسام إسماعيل

  صدر عن الإدارات الأميركية المتعاقبة العديد من التصريحات التي تؤكد أنَّ الأحادية الأميركية ليست مطلقة، ولا يمكنها أن تكون ناجعة إلا إذا اقترنت بتعاون الدول التي تمثل "العالم الحر".

يُفترض عدم قراءة المنعطفات الدولية التي حدثت الأسبوع الماضي بوصفها أمراً عادياً، فأحداث قمة شنغهاي الأخيرة، معطوفة على الاتفاق الأمني الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، أو ما بات يعرف بـ"أوكوس"، تمهّد لرؤية جديدة لواقع توازنات دوليّة جديدة، إن لم نقل إنَّها تكريس لأسس نظام دوليّ جديد.

منذ الحرب العالمية الثانية، ارتبط الأمن القومي الأميركي بفكرة العلاقة الاستراتيجية العميقة بين ضفتي الأطلسي، إذ كانت السياسات الأميركية الدولية مبنية على توافق الحد الأدنى مع الاتحاد الأوروبي، واستطاع حلف شمال الاطلسي أن يقوم بدور الموازن لهذا المشروع. وعليه، إنَّ التعاون والتنسيق، وصولاً إلى مستوى التكامل أو التوأمة، كان حاكماً في عملية اتخاذ القرارات المتعلّقة بالأزمات التي صُنفت على أساس أنها تهديد للأمن الجماعي الدولي بنسخته الأميركية.

من ناحية اتفاقية "أوكوس"، لم تكن مخرجات هذا التطوّر الجديد بين الدول الثلاث منسجمة مع مرتكزات السياسة الخارجية الأميركية، إذ إن اتفاقاً أمنياً بأطراف محددة لا يلحظ مصالح الحلفاء، يعد تراجعاً عن ممارسة دور القطب الأوحد القائد للنظام العالمي الأحادي الذي جهدت الولايات المتحدة لتكريسه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، فالمثالية الأميركية التي كانت مكرسة في المرحلة السابقة، كانت تقوم على أساس التفوق العسكري والارتباط العضوي بين ضفتي الأطلسي، إضافةً إلى تكريس النموذج الأميركي كنموذج وحيد قادر على مجاراة متطلبات العصر الجديد المرتبط بالحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبوصفه النموذج الأكثر قدرة على أن يُصنف كأفضل ما يمكن تقديمه للإنسانية.

استمر الحرص الأميركي على هذه الصيغة، إذ إنَّ قيام الولايات المتحدة باحتلال العراق، واتخاذها القرار بعدم الاشتراك مع حلف شمال الأطلسي أو التشاور مع الدول الأوروبية المعارضة، كفرنسا وألمانيا وبلجيكا، لم يؤدِّ إلى قطع العلاقة العضوية بين ضفتي الأطلسي.

إنَّ مسارعة الإدارة الأميركية في تلك الفترة إلى إعادة ترتيب العلاقة وإشراك الدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي في العمليات اللاحقة لهذا الاحتلال، شكلت اعترافاً بأهمية الاتحاد الأوروبي ودوره المحوري في صياغة الاستراتيجيات الأميركية.

وصدر عن الإدارات الأميركية المتعاقبة العديد من التصريحات التي تؤكد أنَّ الأحادية الأميركية ليست مطلقة، ولا يمكنها أن تكون ناجعة إلا إذا اقترنت بتعاون الدول التي تمثل "العالم الحر"، غير أنَّ العديد من التناقضات التي فرضت نفسها على العلاقة بين الطرفين جعلت الولايات المتحدة تنظر بعين الريبة إلى استراتيجيات الاتحاد الأوروبي، إذ بدأت تخرج إلى العلن أصوات وازنة تدعو إلى ضرورة بناء استراتيجية دفاعية أوروبية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأميركية، إضافةً إلى بدء اختبار سياسات اقتصادية وصناعية وعسكرية وأمنية وجدت ترجمتها في ما أعلنه القادة الأوروبيون في قمة السبع الأخيرة تحت عنوان "الحكم الذاتي الاستراتيجي".

وإذا وضعنا جانباً اختلاف الرؤية حول كيفيَّة إدارة الملف النووي الإيراني وضرورة حلّ إشكاليته عبر التفاوض بعيداً عن لغة التهديد والعقوبات الأميركية، إضافةً إلى المشروع الألماني الروسي لجرّ الغاز مباشرة من روسيا عبر بحر البلطيق أو ما يُعرف بخط السيل الشمالي، يشكّل الموقف الأوروبي المتحفّظ عن الرؤية الأميركية الاستراتيجية بضرورة توحيد الجهود الرامية إلى مواجهة الصين، أساس خلاف جوهري يتمثل بكيفية مقاربة ما يعتبره الطرفان تهديدات استراتيجية لأمنهم القومي.

لقد أظهرت اتفاقية الاستثمار المتبادل بين الاتحاد الأوروبي والصين وقرار العديد من الدول الأوروبية تعميق التعاون مع مبادرة "الحزام والطريق" رغبة أوروبية في تبني موقف محايد بين الولايات المتحدة والصين. وقد عبرت العديد من الدراسات التحليلية عن أنَّ الموقف الأوروبي يرتكز على ضرورة القيام بدور الوسيط الفاعل، وعدم التحول إلى كرة تتقاذفها القوى الدولية في الشرق والغرب. ولم يكن موقف ماكرون بعيداً عن هذه المقاربة، إذ أعلن ضرورة إعادة بناء الشراكة مع الولايات المتحدة، وفق ما أسماه مجتمع القيم، وبما يسمح لأوروبا بالتحرر في علاقاتها مع القوى الدولية.

من جهة أخرى، لم تكن مفاعيل قمة شنغهاي الأخيرة التي عقدت في العاصمة الطاجيكية أقل وطأة من الموقف الأوروبي على المكانة الأميركية العالمية. وإضافةً إلى الإدانة الواضحة للخروج الأميركي العشوائي من أفغانستان، وإعلان المنظمة استعدادها لدعم حيادية هذه الدولة واستقلالها ومساعدتها للتخلص من آثار الإرهاب والحرب، كان قرار المنظمة بقبول عضوية الجمهورية الإسلامية في المنظمة بمثابة إعلان انطلاق مرحلة جديدة من التكافل الإقليمي بين دول المنطقة.

وإذا كان القرار الآسيوي بضمّ الجمهورية الإسلاميّة إلى منظمة شنغهاي سيمهّد لتذليل آثار العقوبات الأميركية عليها، إذ إنَّ الأسواق الآسيوية ستكون كفيلة باستيعاب النفط الإيراني الذي يرفض الاتحاد الأوروبي استيراده خوفاً من العقوبات الأميركية، فإنَّ العلاقة الاستراتيجية مع دول المنظمة ستخلق مجالاً واسعاً للمناورة الضرورية في عملية بناء نظام دولي يرتكز على التفاعل الدولي والإقليمي، بعيداً عن منطق التفرد والأحادية.

إنَّ أهمّ ما يمكن ملاحظته في مفاعيل قمة شنغهاي، هو اليقين الآسيوي بمزايا التكتل وانعدام فرص التأثير الأميركي في مجريات بناء نظام أمن إقليمي لا يلحظ مصالح الولايات المتحدة، ولا يقيم وزناً لإمكانية رفضها أو محاولة تدخّلها لتغيير مجريات المشروع.

كما لا يمكن إغفال مدى التوافق الصيني الروسي الإيراني الآسيوي حول الأثر الهادم للسياسات الأميركية التي أكَّدت فشلها في أفغانستان، إذ شدد المجتمعون في دوشنبه على وجوب منع التدخلات الخارجية في شؤون المنطقة وعدم السماح لأحد بإلقاء محاضرات أخلاقية على دولها.

وإذا ربطنا المتغيرات التي أرخت بظلالها على واقع العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي برؤية شنغهاي المستجدة لمستقبل العلاقات الآسيوية، يمكن أن نستقرئ عمق التأثيرات التي تضرب مرتكزات النظام الدولي لفترة ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر؛ فبعد أن كانت الأحادية الأميركية تقارب ملفاتها انطلاقاً من تماهي مصالح الحلفاء مع مصلحتها القومية وغياب أي معارضة حقيقية، لاقتناع القوى الأخرى بعدم جدواها، تلقت الولايات المتحدة صدمة مزدوجة، إذ تزامن الجهد الأوروبي الساعي للتمايز عن السياسات الأميركية مع مشروع آسيوي هادف إلى إخراج القوى الغريبة من القارة الآسيوية، إذ يتم التسويق لفكرة الأمن الإقليمي المبني على أساس تعاون دول الجوار.

وعليه، ساد لدى الولايات المتحدة قناعة بانتهاء الدور الأحادي المهيمن، بدليل أن القرارات الأميركية الاستراتيجية، كقرار الانسحاب من الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية أو قرار الانسحاب من أفغانستان، لم تنسحب قبولاً أو تجاوباً لدى حلفاء الأمس، إضافةً إلى أن المقاربة الأوروبية لواقع العلاقات المستقبلية مع روسيا والصين لم تراعِ الأسس الاستراتيجية التي كرست تحالفاً أوروبياً أميركياً منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ولذلك، لم تجد الولايات المتحدة أي حرج في إفشال صفقة الغواصات بين الدولة الفرنسية وأستراليا، بل إنها عملت على إرساء أسس الاتفاق مع أستراليا وبريطانيا من وراء الرئيس الفرنسي خلال قمة السبع الأخيرة في لندن.

وأخيراً، يمكن القول إنَّ اعترافاً أميركياً بنظام متعدد الأقطاب تكرس في الأيام الأخيرة، إذ إن فكرة الأحادية الأميركية القائمة على قاعدة أن الحلف هو الَّذي يحدد المهمة، بمعنى أنَّ ثبات الأحادية الأميركية يستند إلى قبول الحلفاء بها، استُبدل بها تراجعٌ في الدور الأميركي، إذ إنَّ المهمة صارت الأساس الَّذي يُحدد الحلف على أساسه.

ولأنَّ العداء الأميركي مع الصين اصطدم بالتماسك والتكافل الآسيوي عبر قمة شنغهاي، وبالرفض الأوروبي للبقاء في دائرة التجاذب الدولي كعنصر سلبي لا يملك القدرة على المبادرة، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى أداء دور القوة الدولية الساعية إلى تكريس نفوذ يرتقي إلى مستوى محاولة فرض اعتراف القوى الكبرى بدورها، بعيداً عن أي محاولة للتأثير في شكل النظام الدولي المتعدد الأقطاب، والمتبلور على عتبة قمة شنغهاي، وعبر نيّة الاتحاد الأوروبي بتكريس الحكم الذاتي الاستراتيجيّ.