تموز ٢٠٠٦.. نصرٌ جاء من خارج ذلك الزمان
شارل ابي نادر
لم يكن أحد من المتابعين في تموز 2006 يعتقد أن تغييرًا مؤثرًا سوف يحدث في تلك المعركة التي خاضها حزب الله ضد العدو الإسرائيلي، رغم اقتناع بعضهم بأن المقاومة حتمًا سوف تقدم شيئًا جديدًا، في التكتيك أو في الأسلحة المستعملة، أو في مناورة المواجهة بشكل عام، حيث مسار تطور امكانياتها وقدراتها كان بدأ يفرض نفسه، وبدأ يوحي بشيء ما، مختلف أو لافت عما كان يطبع معركتها سابقًا.
التميُّز في معارك المقاومة بدأ يظهر بالتحديد خلال المواجهات الأخيرة التي سبقت التحرير عام 2000، وعلى الأقل في السنتين الأخيرتين (1998 و1999) وما حضنته تلك الفترة من عمليات جريئة، كانت مميزة في الاشتباك المتقارب أو في الدخول إلى مواقع العدو المحصنة أو في تفجير العبوات الناسفة بدوريات أو بقادة للعدو، وذلك في حولا أو عدشيت القصير أو في القنطرة أو بني حيان أو في الشومرية أو في مركبا أو في تلال اقليم التفاح، أو في سجد أو جبل الريحان أو في قلعة الشقيف. ولاحقًا، ظهر هذا التميّز جليّا وصادمًا، في ذروة الضغط الذي مارسته المقاومة ضد العدو خلال الأشهر الأخيرة قبل هزيمته وانسحابه مرغمًا في أيار عام 2000، دون تحقيق أي شرط من تلك التي كان وضعها لاحتلاله.
هذا المسار شبه العادي اذًا، كان يوحي بأن المواجهة التي بدأت في 12 تموز عام 2006 واستمرت حتى منتصف شهر آب من ذلك العام، سوف تبقى في اطار "الزمن الذي تعودنا عليه"، بحيث لن يحدث هذا التغيير في مستوى الاشتباك، وسوف تنتهي تلك المواجهة، وانطلاقا من خطوط حمر كانت مرسومة ومحددة، أولًا، من خلال قدرات العدو التي كان من غير المسموح أن تكون متواضعة، بل يجب، وبقرار دولي غربي، أن تبقى متفوقة، وثانيًا، من خلال مستوى محدد لقدرات المقاومة، وهذا المستوى يجب أن يبقى، ودائما بقرار دولي كبير، بعيدًا عن امكانية الانتصار على ذلك العدو، الى أن انطلقت تلك المواجهة بعملية خطف جنود العدو في خلة وردة (خراج بلدة عيتا الشعب)، وبدا كل شيء مختلفًا.
عملية خطف جنود العدو التي تكشفت تفاصيلها لاحقًا بشكل متصاعدٍ اختارت المقاومة أن تناور اعلاميًا عبره، أظهرت بداية وقبل تفاصيل وتكتيكات تفجير العبوة واستهداف الآلية المعادية، جرأة غير منظورة، بحيث لم يكن أحد، العدو أولًا، وحتى كل المتابعين من أصدقاء المقاومة أو من المحايدين، يتوقع أن يختار عناصر المقاومة لتنفيذ العملية تلك البقعة من مسلك دوريات أساسي للعدو، محمي جيدًا ومراقب بأكثر من وسيلة مراقبة فعالة، وكان يعتبر ضمن عمق هيكلية الدفاع الأساسية عن مواقعه ومسالك دورياته، فهذا الاختيار كان فوق العادة ومن خارج مسار المواجهة حينها بشكل عام.
الجرأة الأخرى تكشَّفت لاحقًا، وتأكدت بشكل قوي مؤخرًا بعد عرض الإعلام الحربي لحزب الله فيلم العملية بشكل تفصيلي، أظهر مستوى السيطرة على مسرح العملية والثقة بالنفس أثناء اجتياز الشريط الشائك والتقدم نحو الهدف المدمر وانتشال جنديي العدو وحملهما بكل تمالك أعصاب والعودة الى داخل الأراضي اللبنانية ونقلهما الى مكان آمن، بكل برودة ورباطة جأش، وكل ذلك تحت نظر المسيرات المعادية وأجهزة الرصد الحدودية الثابتة، التي عجزت عن التعامل مع المنفذين حرصًا على سلامة الجنديين الأسيرين.
في الساعات الأولى لانطلاق المواجهة، بدأت تظهر خيوط التغيير في تلك المعركة عن السابق، وذلك من خلال استهداف آلية مدرعة للعدو حاولت التدخل وتأخير أو عرقلة عملية الأسر، ونالت نصيبها من الأسلحة المضادة للدروع، وظهر لأول مرة في زمن مواجهة العدو، الصاروخ المضاد للدروع، الكورنيت الروسي المتطور، لنشاهد ذروة استهداف المدرعات المعادية بشكل جنوني. كان العدو مصدومًا من مساره، بداية في سهل الخيام ولاحقا في مشروع الطيبة ومسلك الفرقة المدرعة العدوة نحو وادي الحجير، الى أن كانت ذروة الاشتباك ضد تلك الفرقة المدرعة في منطقة قتل مختارة بعناية، بين آخر وادي الحجير من جهة الجنوب والمداخل الشمالية لبلدة الغندورية، وهناك حصل ما حصل من تدمير وإحراق لعدد كبير من دبابات الميركافا، وكانت بحق مجزرة، ليس فقط ضد أحدث دبابة لدى العدو وربما في العالم، بل أيضًا كانت مجزرة ضد أحد أهم مبادىء القتال والمعركة لدى العدو، والتي طالما طبعت حروبه كافة وهي الصدم وتحقيق الاختراق عبر المدرعات، فألغت تلك الملحمة بشكل نهائي من قاموس العدو وعقيدته القتالية هذا المبدأ.
كل هذه التغييرات في مواجهة مدرعات العدو كانت في جهة، وفي الجهة الأخرى كانت هناك معركة أخرى مندلعة، ظهرت مختلفة بالكامل عن زمن المعارك السابقة، استمرت طيلة فترة العدوان (حوالي 33 يومًا) دون توقف، إلا في حالات التزام عناصرها بأوامر قيادة المقاومة في وقف اطلاق النار: "مناورة إطلاق الصواريخ إلى داخل الأراضي المحتلة"، فكانت وبحق أيضًا، مناورة صادمة للعدو، عجزت كل أسراب قاذفات العدو (اف 15 واف 16) التي تتجاوز المئات من الأكثر تطورًا وتجهيزًا، وعجزت كل مجموعات التدخل الجوي للمسيرات المعادية دون طيار القاذفة، والتي لم تفارق أجواء كل مناطق الاطلاق بتاتًا، عن إسكات قاعدة اطلاق صاروخية واحدة للمقاومة، فبقيت تلك القواعد تستهدف أغلب مواقع ونقاط العدو العسكرية بشكل متواصل، لم يألفه العدو بتاتًا ولم يكن أساسًا ينتظر أو يعتقد أنه سوف يحدث.
المواجهات البرية والاشتباكات المتقاربة بين الوحدات الخاصة المعادية وبين عناصر المقاومة، والتي كانت تستميت بشكل شبه افرادي بمواجهة مجموعات النخبة المعادية، في بنت جبيل وفي مارون الراس وفي مشروع الطيبة وفي ياطر ورشاف وبيت ليف وغيرها، كانت كلها توحي بأنها مواجهات خارج الزمن الذي كان ينتظره العدو أو غيره.
هذا الانتصار في تموز 2006، لم يكن فقط خارج مسار المواجهة المألوف، والذي خبرناه أو عايشناه سابقًا في المواجهات ضد العدو، أو الذي تدربنا (كجيوش أو كمقاومة) وخلال الكثير من المناورات على التعرف عليه والتأقلم معه ومواجهته، بل كان نقطة تحول في سياق الصراع ضد "اسرائيل"، أسست لمسار ومستوى مختلف بالكامل عن السابق، فيه تخطَّت المقاومة الكثير من المحرمات التي طالما طبعت مستوى القتال والمعركة ضد العدو، فنسي الأخير أن التفوق الجوي يحسم المعركة، ونسي أنه كان يملك القدرة على نقل المعركة الى أرض غيره، فأصبحت بالكامل على أرضه، ونسي فعالية واهمية سلاح المدرعات في المواجهة.
وأخيرًا، ولتأكيد وتتويج هذا المسار الجديد من زمن المواجهة ضد العدو، جاءت مؤخرًا معركة "سيف القدس"، والتي خاضتها المقاومة الفلسطينية البطلة في غزة ضد العدو في أيار من العام الحالي، مستلهمة وبصدق وإخلاص كامل، أغلب عناصر وتكتيكات واستراتيجيات معركة حزب الله في العام 2006، في الجرأة على الاشتباك والمواجهة المتقاربة، في مناورة إطلاق الصواريخ المتواصلة، عبر قواعد متحركة وضمن شبكة أنفاق أخطبوطية اذهلت وصدمت العدو في فعاليتها ومناعتها ضد الاستهداف، وفي معركة الكورنيت ضد مدرعات العدو، فاستدرك الأخير كل تلك التغييرات، وفهمها جيدًا واستخلص منها العبر، فكان امتناعه عن القيام بعمل بري ضد غزة، بالرغم من أهميته وضرورته وحاجته له بامتياز، فدخل مرغمًا بعد "تموز 2006" وبعد "سيف القدس"، في مسار آخر من المعارك يمكن أن نطلق عليه وبحقٍ، زمنٌ آخرٌ من المواجهة، ما بعده لن يكون كما قبله.