اللعب على حافة الهاوية لم يعد متاحاً واشنطن أمام تحديات عالم متغيّر
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
برز مصطلح «اللعب على حافة الهاوية» في الولاية الأولى للرئيس الأسبق دوايت آيزنهاور 1953-1956»، بالتزامن مع نضوج صراعات النفوذ في العلاقات الدولية، ومع بدايات الحرب الباردة والعداء الأميركي المتأصّل للتجربة السوفياتية ومحاصرتها. وينسب إلى وزير خارجيته جون فوستر دالاس ترجمة المصطلح بالتناغم مع اندلاع الحرب الكورية وتقسيم شبه الجزيرة، و»تحذيره» موسكو من كلفة «انتقام هائل ضدّ أهداف سوفياتية».
عرّف دالاس مقصده بأنه «الفن الضروري» الذي ينطوي على امتلاك «القدرة على الوصول إلى حافة الهاوية دون الدخول في الحرب»، أي ممارسة التهديد باستخدام القوة العسكرية، ومن ضمنها الحرب النووية، لفرض تراجعات على الاتحاد السوفياتي ضمن معادلة الصراع الكوني بينهما. وعليه، اعتمدتها واشنطن كركيزة أساسية لسياساتها ضد موسكو، وكانت أحد عناصر تدهور العلاقات بينهما منذئذ.
بعد الإفراج عن الوثائق الرسمية الأميركية لعهد آيزنهاور، تبيّن أنّ الأخير ووزير خارجيته دالاس قرّرا المضيّ في سياسة اللعب على حافة الهاوية، والتي تعارضت تماماً مع سياسة رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشيرتشل المعروفة بـ «التعايش السلمي» مع الاتحاد السوفياتي (بحسب ما جاء في كتاب أستاذ التاريخ في جامعة دالاس، ديفيد واتري، «الديبلوماسية على شفير الانهيار: آيزنهاور وتشيرتشل وإيدن في الحرب الباردة»، 2014)، بيد أنّ واشنطن وموسكو استطاعتا التوصّل إلى تفاهمات عملية بين الفينة والأخرى، وإجراء مناورات عسكرية مستقلة متبادلة، من دون الانزلاق إلى خطر نشوب حرب بينهما طيلة عصر الحرب الباردة، على الرغم من تدهور العلاقات بينهما في محطات عدة، وخصوصاً أثناء «ربيع براغ» ودخول القوات السوفياتية وحلف وارسو إلى تشيكوسلوفاكيا في العام 1968. وسبقه «أزمة الصواريخ الكوبية»، في عهد الرئيس جون كنيدي ورئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف. وقد كاد سوء تقديرات واشنطن يتسبّب في اندلاع حرب نووية بينهما، فرضت على إثرها واشنطن حصاراً على كوبا لا يزال قائماً إلى اليوم.
إنّ جردة سريعة لعلاقات الدولتين العظميين تشير بوضوح إلى تبدّل في سياسات واشنطن العدائية، على خلفية أزمتها الداخلية المتصاعدة نتيجة حرب فيتنام، و»تجميد» سياسة الاحتواء السابقة إلى حين، وانتهاج «سياسة الانفراج» في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، والتي استمرت إلى نحو 12 عاماً، شهد فيها المسرح العالمي انخفاضاً ملحوظاً في منسوب التوتر بينهما.
جاء التحوّل النوعي في سياسة تصعيد واشنطن مع الرئيس الأسبق رونالد ريغان الذي أطلق العناق لسباق التسلح بين الطرفين، بتبنّيه «مبادرة الدفاع الاستراتيجي»، أو حرب النجوم، وإدخال أسلحة استراتيجية جديدة إلى الترسانة الأميركية، قاذفة الشبح والقنبلة النيوترونية، وإنعاش توجهات قوى اليمين المتشدّد بموازاة الحقبة المكارثية، وربما أبعد منها، لاستعداء «امبراطورية الشر»، كما أسماها ريغان.
تلك كانت أبرز تجليات «اللعب على حافة الهاوية» بين الدولتين العظميين، ثم تجدّد الأمر مرة أخرى مع مجيء الرئيس دونالد ترامب وتصعيده منسوب «الأزمة» مع كوريا الشمالية، مهدّداً باستخدام السلاح النووي ضدها، وما رافقها من توتر عالمي وضغوط دولية أسفرت عن لقاء قمة بين رئيسي البلدين، لكن سرعان ما بدّدت واشنطن نتائجها المرجوة نتيجة ضغوط داخلية قاسية، أرضيتها عدم جهوزية الولايات المتحدة «لإنهاء حالة العداء» مع كوريا الشمالية ورفضها بشدة، وتجديد مطالبها لقلب نظام الحكم فيها.
تميّزت ولاية الرئيس الأسبق ترامب بإعلاء «أميركا أولاً» على حساب النظام العالمي السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وسعيه لتشكيل نظام عشوائي أطاح أسس التحالفات والتوافقات الدولية وقواعد «الاحترام المتبادل»، بيد أنّ الرئيس الحالي جو بايدن ماضٍ في ترجمة تلك النظرة القاصرة بأسلوب أكثر سلاسة وجاذبية، بإقرار إدارته أنّ «بعض أفعالنا في السنوات الأخيرة قوّضت النظام العالمي».
أما وجهة الإدارة فهي «الحفاظ على النظام القائم على قواعد تشكل الصين تحدياً لها»، ما اعتبر قفزاً مقصوداً على التغيرات العالمية وتراجع هيبة الولايات المتحدة. (مداخلة وزير الخارجية طوني بلينكن بالفيديو أمام مجلس الأمن الدولي، 7 أيار/مايو 2021).
تلك «القواعد» التي أرست علاقة عاصمتي العملاقين، واشنطن وموسكو، أسهمت في عدم انجرارهما إلى اشتباكات مباشرة ودخول عصر «ما بعد الحرب الباردة»، من دون ارتكاب أخطاء في الحسابات تؤدي إلى نشوب صراع شامل، لكن المشهد العام لم يخلُ من تحديات بينهما استخدمت فيه الأسلحة الحديثة وإرساء رسائل ردع متبادلة بينهما.
لقد شهد الأسبوع المنصرم، 23 حزيران/ يونيو الحالي، خرق المدمّرة الحربية البريطانية «أتش أن أس ديفندر» حدود روسيا، قبالة سواحل شبه جزيرة القرم، ما دفع سلاح الجو الروسي إلى إطلاق 4 قنابل تحذيرية بالقرب منها، بينما أنكرت البحرية البريطانية الحادث برمّته على خلفية عدم اعترافها بسيادة روسيا على شبه الجزيرة. ويعتبر المراقبون العسكريون أنها المرة الأولى منذ الحرب الباردة التي تستخدم فيها روسيا ذخيرة حية «لردع سفينة تابعة لحلف الناتو»، وهو إجراء لم يكن مسموحاً به ضمن قواعد اشتباك الحرب الباردة .
وعلى أثر الحادثة، سارعت روسيا إلى نقل مقاتلتين، من طراز MiG-31K، تحملان صواريخ «فرط صوتية» من طراز ( Kinzhal الخنجر)، إلى قاعدة حميميم في سورية، للمشاركة في مناورات في مياه البحر المتوسط (25 حزيران/يونيو 2021).
وسبق حادثة حلف الناتو قرب المياه الروسية إجراء موسكو مناورات عسكرية ضخمة في المحيط الهادئ على مسافة 300 ميل من جزر «هاوايي» الأميركية، شارك فيها نحو 20 سفينة حربية ومقاتلات متطورة وقاذفات بعيدة المدى، واقتراب بعض قطعها البحرية بنحو 20 ميلاً بحرياً من شواطئ «هاوايي».
استنفر الجانب الأميركي، ورفع درجة جهوزيته ومراقبته للمناورات العسكرية بنشر 3 مدمرات وقطع عسكرية أخرى في المياه الإقليمية، وفسّر الخطوة «غير المسبوقة» لروسيا بأنها جزء من خطة متكاملة لتطوير قدراتها العسكرية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة واستعراض القوة بعيداً عن حدودها الجغرافية.
وزارة الدفاع الروسية أوضحت أنّ هدف المناورة هو اختبار قدرة أسلحتها على «تدمير مجموعة من حاملات الطائرات المعادية»، ما أشار إلى تذخير القاذفات الروسية بصواريخ مضادة للسفن. اعتبر الجانب الأميركي أن العقيدة الروسية الجديدة تتمحور حول تكثيف الهجمات على شبكات الدفاع الجوي المعادية، استكمالاً للعقيدة السابقة بقصف سريع للسفن بصواريخ مضادة، لكن الجديد هو دخول الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت بعدة مرات، والتي تشكل تحدياً جاداً للترسانة الأميركية في وضعها الراهن.
الردّ أو الاستعراض الأميركي على المناورة الروسية أعلن عنه بإجراء «اختبار الصّدمات» ضد أحدث حاملة طائراتها «يو أس أس جيرالد فورد»، مستخدمة 40،000 رطل (18،143 كلغ) من المتفجرات، في مياه تبعد نحو 100 ميل عن ولاية فلوريدا، للتيقن من قدرتها على تحمّل «ظروف المعركة».
وسجلت «هيئة المسح الجيولوجي» الأميركية الانفجار بأنه يعادل زلزالاً بقوة 3.9 درجة على مقياس ريختر. تعرضت الحاملة لتأثير انفجار هائل، عندما كانت على بعد 500 قدم (152 متراً) من مركز الانفجار، ولحقها بعض الأضرار، ثم عادت إلى حوض جاف لإجراءات الصيانة والإصلاحات (نشرة سلاح البحرية «يو أس أن آي»، 19 حزيران/ يونيو الحالي).
يُشار إلى أنّ «اختبار الصدمات» جاء ثمرة جهود وإلحاح رمز معسكر الحرب الأميركي، السيناتور الراحل جون ماكين، للتيقّن من أدائها والقدرة على اعتمادها كمقدمة لتوفير الميزانيات المطلوبة لحصد نتائج مُرضية.
يزهو القادة العسكريون في واشنطن بقدرتهم على تدمير بطاريات الصواريخ الأسرع من الصوت قبل إطلاقها، وذلك استناداً إلى «عقيدة الدفاع الراهنة»، التي تقتضي إنشاء شبكات دفاعات موازية زائدة عن الحاجة، للتغلب على إمكانية خروج حاملة الطائرات من الخدمة واعتماد حاملتي طائرات لكلّ مجموعة قتالية، وللتطورات الحديثة أيضاً في تقنيات وسائل الدفاع الجوي الأميركي، فضلاً عن حرب التشويش الإلكترونية.
ليس مستبعداً على مراكز صنع القرار الأميركي الجنوح إلى ارتكاب أخطاء تجاه نيّات روسيا، أو قراءة عزم الرئيس الروسي نشر قوة بلاده على المستوى العالمي، يدعمها انتعاش موجة عداء جديدة ضدها، وخصوصاً منذ انتخابات العام 2016 الرئاسية.
يجادل هؤلاء في أنّ مواصفات اللعب الناجح على «حافة الهاوية» يقتضي توفّر موارد كافية لانتشار القوة بعيداً من الحدود الجغرافية، ولا يزال معظم استراتيجيي واشنطن ينظرون إلى روسيا بازدراء شديد، وبأنها «محطة وقود متنقلة»، كما وصفها السيناتور الراحل جون ماكين، وإصرارهم على اعتبار قوة الاتحاد السوفياتي سابقاً بأنها وهمية.
سياسة الرئيس بايدن نحو روسيا، كما تشير إليها الأدبيات السيّاسيّة المتعددة، تستعيد نموذج «الاحتواء» السابق وما أدى إليه من تجارب قاسية في الداخل الأميركي، والاستنزاف المستمر لمواردها الاقتصادية، والتدهور السريع في بناها التحتية التي بدأ الحديث عن ترميمها مؤخراً.
يمكننا القول إنّ صنّاع القرار السياسي الأميركي، في الفترة الراهنة يثبتون مرة تلو الأخرى مدى قصور رؤيتهم إلى المتغيّرات الدولية، والتظاهر بقدرتهم على الاستمرار باللعب بالأدوات السابقة نفسها للسيطرة على العالم، الذي لم يعد كما كان إبان الحرب الباردة.