محاولة أميركية جديدة لتخفيض السقف الروسي
د. صبحي غندور
ليست مشكلة موسكو فقط مع مؤسّسات أميركية فاعلة الآن في إدارة بايدن، بل إنّ جذور الأزمة تعود لفترة إدارة بوش الابن، حيث وقف الرئيس بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن في العام 2007 محتجًّا على السياسة الأميركية التي كانت سائدة آنذاك. فأولويّات روسيا كانت هي أمنها الداخلي، وأمن حدودها المباشرة في أوروبا، وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسيًا وأمنيًا. وموسكو أدركت أنّ الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي، وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابّة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع تمدّد حلف “الناتو” في أوروبا الشرقية ومع نشر منظومة الدرع الصاروخي. وهذه كانت سياسة الدولة الأميركية، ولم تكن فقط سياسة حاكمٍ في “البيت الأبيض”!.
فلاديمير بوتين يقود الآن روسيا الاتّحادية على قاعدة السياسة التي أطلقها أولًا في مؤتمر ميونخ عام 2007 حيث أكّد آنذاك رفضه للقطبية الدولية الواحدة وللانفراد الأميركي بتقرير مصير العالم، ممّا اعْتبِر حينها نقطة تحوّل في سياسة موسكو ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. فمنذ ذلك التاريخ، تنظر روسيا إلى السياسة الأميركية على أنّها مصدر خطر مباشر على المصالح الروسية.
لكن السياسة الروسية “البوتينية” لم تكن بالضرورة دعوة للعودة إلى أجواء الحرب الباردة وإلى سباق التسلّح بين موسكو وواشنطن، بل من خلال السير بخطًى ثابتة، ولو بطيئة، لاستعادة مواقع النفوذ التي فقدتها موسكو عقب سقوط الاتّحاد السوفييتي. فالآن عادت موسكو غير الشيوعية إلى منطقة “الشرق الأوسط” وهي دولة كبرى قادرة على المنح والمنع معًا في عدّة أزماتٍ إقليمية حاصلة!.
أوروبا هي بيضة الميزان الآن في العلاقات الروسية/الأميركية. وهناك عدّة دول أوروبية (غربية وشرقية) لا تجد لها مصلحةً في تصاعد التوتّر بين موسكو وواشنطن، ولا تريد أن تكون في حال الاضطرار للاختيار بين هذا الطرف أو ذاك. فروسيا الآن هي مصدر هامّ للطاقة في أوروبا، وهناك مصالح تجارية واقتصادية كبيرة تنمو بين الاتّحاد الروسي والاتّحاد الأوروبي، كما هي أيضًا بين أوروبا والصين. وهذا الموقف الأوروبي هو عنصرٌ مهمٌّ الآن في ضبط العلاقات الروسية/الأميركية.
إنّ لائحة القضايا المختلَف عليها بين موسكو من جهة، وواشنطن و”الناتو” من جهةٍ أخرى، هي بلا شك لائحة كبيرة، لكنّ موسكو تدرك أيضًا حاجة واشنطن و”حلف الناتو” للتنسيق معها في ملفّات عديدة منها القضية الأفغانية، والملفّ النووي الإيراني ومصير التسوية السياسية في سوريا. فالحرب في أفغانستان جرت وتستمرّ في إطار مسؤولية حلف “الناتو” ومشاركة قوات أوروبية وكندية تبحث دولها الآن عن مخرجٍ لها من المستنقع الأفغاني، بينما تستفيد موسكو طبعًا من محاربة “الناتو” لجماعات “طالبان” و”القاعدة” ودرء مخاطرها عن الأمن الروسي في أقاليم إسلامية تابعة للاتّحاد الروسي أو في جمهوريات دائرة في فلكه، لكن موسكو أيضًا لم تجد ضررًا من انغماس “الناتو” في مستنقعٍ ساهم في إسقاط روسيا السوفييتية وقلّص من حجم نفوذها الدولي.
في المقابل، فإنّ محاولات التحجيم الأميركي لروسيا وتخفيض سقف طموحاتها العالمية، هي متعدّدة رغم حرص واشنطن على عدم حدوث تصادم عسكري مع القوة العسكرية الروسية، التي هي الثانية عالميًا بعد الولايات المتحدة وتملك صواريخ نووية عابرة للقارّات ولم تصطدم معها أميركا في أسوأ ظروف “الحرب الباردة”، حيث حرصت موسكو وواشنطن (كما تحرصان الآن) على إبقاء الصراعات بينهما في ساحات الآخرين، ومن خلال الحروب بالوكالة عنهما وليس بالأصالة منهما. ولعلّ الأزمة الأوكرانية، وقبلها جورجيا، ومعها الآن سوريا، لأمثلة عن كيفية سعي واشنطن لتحجيم النفوذ الروسي العالمي، ولمشاركة روسيا في مناطق كانت محسوبةٌ كلّيًا لموسكو كما هو الحال في سوريا الآن. أيضاً، يتصور البعض أنّ موسكو قد انتصرت في المسألة الأوكرانية بينما واقع الحال هو أنّ الولايات المتحدة أصبحت شريكاً لروسيا في أوكرانيا بعد تغيير الحكم فيها وأنّ القوات الأميركية ومعها “الناتو” قد وصلا إلى الحدود الإستراتيجية المباشرة للاتّحاد الروسي، بعد أن امتدّا أصلًا إلى دول أوروبا الشرقية، وأصبح جزءٌ من هذه الدول عضوًا في حلف “الناتو”.
ولقد أضافت الولايات المتحدة، خلال العقود الثلاثة الماضية، أوروبا الشرقية على ساحات تأثيرها ونفوذها في دول أوروبا الغربية، وهي الآن تدقّ أبواب الحدود الروسية من خلال تحوّل أوكرانيا إلى حليف لواشنطن، حتّى لو سيطرت موسكو على القرم وعلى أجزاء من شرق أوكرانيا.
لكنّ روسيا، بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها، لا يمكن لها أن تكون منعزلةً أو محصورةً فقط في حدودها. هكذا كانت روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية، وهكذا هي الآن روسيا “البوتينيّة”!.