كيف أرعبَ خِطابَا السيّد والسنوار الإسرائيليين وما القاسم المُشتَرك بينهما؟
ولماذا قد يكون نِتنياهو أوّل ضحايا انتِصار غزّة؟ وما هو أكثر شيء أغاظ الإسرائيليين شعبًا وجِنرالات؟ وما السِّر وراء كسب العرب لحرب “السوشيال ميديا” بجَدارةٍ؟
عبد الباري عطوان
لنَترُك الحديث عن جولة أنطونيو بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي، وملايين إعادة الإعمار الموعودة جانبًا، ونُرَكِّز على خِطابين على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة سياسيًّا وعسكريًّا، حدّدا طبيعة الحرب القادمة، وربّما الوشيكة، وخريطة الطّريق إليها، وهُما الخِطابان اللّذان أثارا حالةً من الرّعب في أوساط الإسرائيليين شعبًا وقيادةً وعسكرًا، الأوّل ألقاهُ السيّد حسن نصرالله زعيم المُقاومة الإسلاميّة في لبنان تخليدًا لذِكرى تحرير جنوب لبنان، وإلحاق هزيمة مُزلزلة بالجيش الإسرائيلي، والثّاني ألقاه السيّد يحيى السنوار زعيم المُقاومة الإسلاميّة أيضًا في قطاع غزّة احتفالًا بالانتِصار الكبير في الحرب الأخيرة التي غيّرت قواعد الاشتِباك وشطبت فاعليّة القبب الحديديّة، وقُدرة سِلاح الجوّ الإسرائيلي على حسم الحُروب.
السيّد نصر الله خرج على أنصاره بدافعٍ جديد لخوض الحرب ضدّ دولة الاحتِلال الإسرائيلي، أيّ الدّفاع عن القدس وحماية المقدّسات المسيحيّة والإسلاميّة في وجه أيّ مُحاولة إسرائيليّة للمسّ بها حتى لو أدّى ذلك إلى إشعال فتيل حرب إقليميّة، وهذا يعني في رأينا إسقاط كُل الخُطوط الحُمر اللبنانيّة الداخليّة، وتوسيع دائرة أهداف المُقاومة اللبنانيّة، وعدم اقتِصارها على تحرير ما تبقّى من أراضٍ لُبنانيّة مُحتلّة مِثل مزارع شبعا، لمصلحة هدفٍ عربيّ وإسلاميّ أشمَل.
أمّا الخِطاب الثّاني، أيّ خِطاب السنوار، الذي ألقاه قبل ثلاث أيّام في مُؤتمر صحافي، وبعد تطبيق اتّفاق وقف إطلاق النّار مُباشرةً، فقد تضمّن تحذيرًا شديد اللّهجة للإسرائيليين، بأنّ حرب غزّة الأخيرة، قد تكون آخِر حرب تخوضها فصائل المُقاومة لوحدها ضدّ إسرائيل، وأنّ الحرب المُقبلة ستُشارك فيها كُل قوى محور المُقاومة وفصائله المُحيطة وغير المُحيطة، بفِلسطين المحتلّة، وستكون المعركة الكُبرى والأخيرة.
التِقاء الخِطابين على أرضيّةٍ واحدة، وهي الدّفاع عن القدس والمُقدّسات، يعني أنّ الحرب القادمة ستكون مُختلفة وأنّ التّنسيق في ذروته بين مُقاومة القِطاع والمُقاومات اللبنانيّة والسوريّة والعِراقيّة واليمنيّة، وستشمل إطلاق آلاف الصّواريخ دُفعةً واحدةً في اليوم، وربّما في السّاعة، من الشّمال حيثُ “حزب الله”، من الجنوب حيثُ قِطاع غزّة، ومن الشّرق حيثُ سورية والعِراق، ومن جنوب الجنوب حيث حركة “أنصار الله” الحوثيّة، وسيُعاني سلاح الجوّ الإسرائيلي شللًا كامِلًا لأنّ الطّائرات الإسرائيليّة إذا طارت لن تتمكّن من العودة إلى مطاراتها لأنّها ستكون قد جرى تدميرها ومُدرّجاتها من قبل الصّواريخ الدّقيقة، والأهم من ذلك، ونحن نَنْقُل هُنا عن جِنرالات إسرائيليين، أنّ مخزون إسرائيل من الصّواريخ التي ستلعب دورًا حاسمًا في الحرب، سيكون مُتواضِعًا جدًّا أمام أعداد ما تحتويه مخازن “حزب الله” وسورية وقِطاع غزّة، وصعدة، ناهِيك عن إيران أيضًا.
حرب غزّة الأخيرة التي استمرّت 11 يومًا فقط انتهت بوقفِ إطلاق نار استجدته أمريكا من حُلفائها في مِصر والأردن لإنقاذ إسرائيل من هزيمةٍ كُبرى غير مسبوقة، فرغم مُشاركة أحدث الطّائرات الأمريكيّة الصُّنع فيها بآلاف الغارات، وإلقاء آلاف الصّواريخ والقنابل فإنّ كُلّ هذا القصف المُكثّف غير المسبوق، لم يُوقِف إطلاق صواريخ حماس والجهاد الإسلامي على المُستوطنات الإسرائيليّة والمُدن المحتلّة في تل أبيب والقدس وأسدود وعسقلان وسيدروت وبئر السبع، واستمرّ هُطول هذه الصّواريخ كالمطر حتّى الدّقيقة قبل الأخيرة من سرَيان اتّفاق وقف إطلاق النّار.
سيَدخُل بنيامين نِتنياهو التّاريخ، ومن ثمّ السّجن، باعتِباره أبرز ضحايا حرب غزّة الأخيرة، إذا صمَدَ الاتّفاق بين خصميه لبيد وبينيت على تشكيل الحُكومة، لأنّ انتصار فصائل المُقاومة في القِطاع المُذِل لإسرائيل هو العامِل الرّئيسي وراء التّوصّل إليه، وتحقيق مُعجزة التّقارب بين أطرافه، على أرضيّة فشَل نِتنياهو المسؤول الأكبر عن هذه الهزيمة، وانفِضاح جميع أكاذيبه عن قوّة إسرائيل “العُظمى” وتفوّقها.
أكثر ما يُغيظ الإسرائيليين وقِيادتهم هو هزيمتهم “المُذلّة” في الحرب الأخيرة، وانهِيار هيبتهم وردعهم، واحتِفالات فصائل المُقاومة في القِطاع، وحركتيّ “حماس” و”الجهاد” ومن خلفهما الشّعب الفِلسطيني، في كُلّ فِلسطين التاريخيّة، بهذا الاحتِفال، وكسب المعركة الإعلاميّة عالميًّا، والعسكريّة ميدانيًّا، ومنظر المُجاهد السنوار وهو يتجوّل في شوارع غزّة سيرًا على الأقدام، وتحدّيه للجِنرال بيني غانتس، وزير الحرب الإسرائيلي، أن يجرؤ على اغتِياله، ويُنَفِّذ تهديداته بالتّالي التي كان يتبجّح في ترديده لها، ولم ينجح في إنجازها بمُحاولتين فاشلتين.
فعندما ترصد الحُكومة الإسرائيليّة مِليار دولار للتّصدّي للانقِلاب ضدّها على وسائل التواصل الاجتماعي فهذا اعتِرافٌ صريحٌ بالهزيمة بعد عُقود من الهيمنة على الإعلام الدّولي، والغربيّ تحديدًا، وتوظيفه في خدمة الخِطاب التّضليلي الإسرائيلي المسموم، فمَن كانَ يتَصوّر أن تنشر صحيفة “النيويورك تايمز” الأمريكيّة صور 66 طِفلًا شهيدًا على صدر صفحتها الأُولى بالألوان وتقول إنّ هذا هو الانتِصار الإسرائيلي، ومن كان يَحلُم أن تُخَصِّص مجلة “الإيكونوميست” غِلافها، وافتتاحيّتها الرئيسيّة لنَعِي حلّ الدّولتين، وتتبنّى حلّ الدّولة الواحدة التي يتساوى فيها العرب واليهود في الحُقوق والواجبات؟
جِنرالات “السوشيال ميديا” من عربٍ ومُسلمين ونُشطاء شباب من مُختلف أنحاء العالم انتفضوا للدّفاع عن الحقّ العربيّ، ووقفوا في خندق المُقاومة والعدالة، هُم الذين حسموا الحرب لصالحنا وقضيّة فِلسطين، بِما يملكونه من خبرةٍ، وعِلم، وقيم، وكفاءات، خاصّةً أولئك الذين في الأراضي المُحتلّة عام 1948 ويَعرِفون كيف يتعاملون مع اليهود بلُغتهم وأدواتهم، أو الذين يعيشون في الغرب، وجاءت النّتائج بكسر انحِياز “الفيسبوك” و”التويتر” و”الإنستغرام”، وكُل الوسائط الأُخرى مُذهلة، والمعركة ما زالت في بدايتها.
الحرب القادمة ربّما ستكون “حرب تحرير” شاملة لكُلّ الأراضي والمقدّسات العربيّة والإسلاميّة، ولن تكون حربًا لـ”التّحريك” أو تحسين الظّروف المعيشيّة تحت الاحتِلال، فالانتفاضات الصّاروخيّة التي باتت عُنوان المرحلة في المِنطقة العربيّة بأسْرِها، لا يهابون الموت ويسعون للشّهادة، وعلينا ألا ننسى أنّ المُجاهد محمد الضيف هو الذي أطلق الصّاروخ الأوّل مُلَبِّيًا استِغاثة المُرابطين في بيت المقدس وأكنافه.
أليسَ لافتًا أنّ “غزّاويًّا” واحِدًا لم يَخترِق الحُدود المِصريّة بحثًا عن الأمان والسّلامة وهربًا من الحرب، وفضّل المِليونان من أبناء القِطاع وحرائره البقاء والشّهادة فوق أنقاض منازلهم؟ هل سَمِعتُم فِلسطينيًّا في القدس أو الخليل أو غزّة أو الناصرة يَستَنجِد بالجامعة العربيّة ويَستَجدِي مُساعدات دُوَلها الثّريّة؟
الحُلُم الصّهيوني ينهار بشَكلٍ مُتسارع وتنهار معه كُل اتّفاقات العار ابتداءً من أوسلو وانتهاءً بكامب ديفيد ومُرورًا بوادي عربة وسلام أبراهام، وهذا الهلع الأوروبي الأمريكي لوقف إطلاق النّار وتقديم المُساعدات، والحديث عن إحياء العمليّة السّلميّة، وحلّ الدّولتين إلا خوفًا من نتائج هذا الانهِيار، وأبرزها عودة اليهود إلى بُلدانهم الأصليّة، وفشَل الحلّ الأوروبي للمسألة اليهوديّة على حِساب الشّعب الفِلسطيني بعد الحرب العالميّة الثّانية.
الأيّام القادمة حافلةٌ بالمُفاجآت بعد انتِقال الخوف والرّعب إلى الإسرائيليين، وعودة ثقافة المُقاومة إلى شُرفاء العرب لزمانها الجميل.. والأيّام بيننا.