المحكمة الجنائية الدولية والنظر في محاكمة الإسرائيليين على جرائمهم
د.علي.أ.مطر
أحدث قرار المحكمة الجنائية الدولية باختصاصها بالمحاكمة على جرائم الكيان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية)، زلزالاً سياسياً وأمنياً في الكيان، مخافةً من أن تبدأ المحكمة بدراسة الدعاوى الفلسطينية وإقامة محاكمة للمسؤولين الإسرائيليين عن الجرائم التي تدخل في صلب اختصاصها. لم تكن "إسرائيل" تتوقع أن تصل إلى وضع كهذا يُحاكم مسؤوليها، سواء السياسيين أو العسكريين، على قضايا تتعلق بجرائم حرب أو ضد الإنسانية ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني.
يكشف هذا القرار حقيقة الكيان الإسرائيلي المجرم أمام العالم، وهي الحقيقة الإجرامية التي لطالما حاول كيان الإحتلال إخفائها، عبر الإدعاءات الزائفة باحترام القانون الدولي في الحرب، وبأنه ليس محتلاً للأراضي الفلسطينية لذلك أعرب مسؤولون إسرائيليون عن خشيتهم من أن يكون هذا القرار مُقدمة لإطلاق تحقيق في جرائم الحرب الناتجة عن الأعمال العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
بالنسبة للإسرائيليين فإن هذا القرار مصيري وخطير، وسيحاولون أن يفعلوا كل ما في وسعهم من أجل منع مشهد لوجود سياسي أو عسكري إسرائيلي معتقل، أو متهم في قاعة المحكمة، لذلك أعلنت "إسرائيل" عن رفضها لقرار المحكمة مدعيةً أن "إسرائيل ليست عضوًا في المحكمة وأن السلطة الفلسطينية لا تتمتع بمكانة دولة".
لكن هذه الإدعاءات، لا تعني أن ينتهي مفعول الجرائم الصهيونية، وأن يستمر الإفلات من العقاب وعدم ملاحقة المسؤولين الصهاينة عن هذه الجرائم ولا سيما قصف المنازل السكنية. لذلك لم يعد كافياً الحديث فقط عن الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال على الرغم من أهمية إبراز هذه الانتهاكات ـ فلا بد من البحث عن آليات لإيقاف هذه الجرائم، والمانعة لسياسة الافلات من العقاب ـ التي يمكن تعريفها بأنها غياب العقوبة عند خرق قاعدة من قواعد القانون الجنائي، أو غياب المسؤولية الجنائية عن المنتهكين لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.
أولاً: لماذا الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية؟
تجدر الإشارة هنا إلى أسباب الذهاب إلى المحكمة، حيث علت المطالبات للسلطة الفلسطينية الإسراع في الذهاب نحو التوقيع على نظام روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، وبعد ان اشترط رئيس السلطة محمود عباس قبول جميع الفصائل الفلسطينية، أعلنت المقاومة وعلى رأسها حركة حماس قبولها الانضمام للمحكمة، فالمقاومة لا تخشى ذلك لأنها تقوم بحقها بالدفاع عن شعبها وتحرير أرضها، وعندما أعلن المدعي العام للمحكمة فاتو بنسودا قرار المحكمة باختصاصها في التحقيق بالجرائم على الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية) سارعت فصائل المقاومة تؤيد ذلك.
ومن المعلوم أن الإسرائيليين ارتكبوا جرائم الحرب وضد الانسانية والإبادة التي نص عليها نظام المحكمة الجنائية الدولية وبالتالي لا بد من ملاحقة المسؤولين عنها دولياً، لأن نفاذ نظام روما والالتزامات الناشئة عنه من شأنها أن تضع حداً لإفلات هؤلاء المجرمين.
وعلى عكس الإدعاءات الصهيونية، تعتبر فلسطين دولة شأنها شأن بقية دول العالم، وفي يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبية على قرار الاعتراف بدولة فلسطين وأعطيت صفة عضو مراقب. وقد أعاد هذا القرار تأكيد «حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وحقه في أن تكون له دولته المستقلة على الأرض والتخلص من الاحتلال». وبالتالي من حق فلسطين أن توقع على المعاهدات المتاحة أمام جميع الدول.
لقد نص نظام المحكمة على أن الدولة التي تصبح طرفاً في هذا النظام الاساسي تقبل بذلك اختصاص المحكمة في ما يتعلق بالجرائم المشار اليها، لأن هذه الجرائم التي يرتكبها الصهاينة، يمكن احالتها على المحكمة في حال لم توقع فلسطين على نظام روما عبر ثلاثة طرق:
1ـ يمكن الاحالة عبر مجلس الأمن ولكن هيمنة أميركا على المجلس بسبب استخدامها لحق النقض الفيتو لمصلحة «اسرائيل» ستمنع ذلك.
2ـ يمكن إحالة هذه الجرائم عبر الجمعية العامة، بفضل استخدام قرار الاتحاد من أجل السلام، ولكن ايضاً ليس هناك ما يضمن أن لا تؤثر أميركاعلى الدول في الجمعية العامة وتمنع إحالة الجرائم الصهيونية على المحكمة الجنائية الدولية.
3-يبقى فقط أن هناك إمكانية أن تدعي الدولة المتضررة أمام المحكمة ويجب أن تكون دولة عضو، أو أن يحرك المدعي العام هذه الشكوى ويجب أيضاً أن تكون هذه الدولة عضواً في المحكمة إلا في حالات قد تكون استثنائية.
ثانياً: اختصاص المحكمة
إن المسؤولية عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية يتحملها، إلى جانب الحكومات، الأشخاص الطبيعيون المتهمون بالتخطيط لارتكاب هذه الجرائم. ويكتسب نظام المسؤولية الجنائية الدولية للأشخاص الطبيعيين أهمية كبيرة للحيلولة دون اقتراف هذه الجرائم، لذلك طالب الكثيرون بإنشاء محكمة جنائية دولية، حيث كانت ثمرة ذلك التوقيع على نظام روما الذي انشأ ت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية، لمحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورةً في سياق انتهاك القانون الدولي.
لقد نصت المادة 11 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه: ليس للمحكمة اختصاص إلا في ما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام الأساسي. هذا يعني أنه لا اختصاص للمحكمة على الجرائم التي وقعت قبل بدء النظام الأساسي.
كما تنصّ الفقرة 2 من المادة نفسها على أنه: إذا أصبحت دولة من الدول طرفاً في هذا النظام الأساسي بعد بدء نفاذه، لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا في ما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة، ما لم تكن تلك الدولة قد أصدرت إعلاناً أودعته لدى سجل المحكمة، تقبل بموجبه ممارسة المحكمة اختصاصها في ما يتعلق بالجريمة قيد البحث المرتكبة قبل نفاذ النظام بالنسبة لتلك الدولة.
وقد سبق لفلسطين أن قدمت عام 2009 إعلاناً، بـ "اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لغايات تحديد وملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن الأفعال التي ارتُكبت في إقليم فلسطين منذ يوم 1 تموز/ يوليو 2002 والمشتركين معهم في ارتكابها".
وأشارت المادة 25 من النظام الأساسي للمحكمة، إلى أن اختصاص المحكمة يطبق على الأشخاص الطبيعيين، أي المسؤولية الجنائية فردية، وأن الشخص الذي يرتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسؤولاً عنها بصفته الفردية... ولكن تبقى مسؤولة عن الضرر الذي يلحق بالآخرين نتيجة لأعمالها غير المشروعة، وتلتزم الدولة التعويض عن هذا الضرر على النحو المقرر في أحكام المسؤولية الدولية.
وبحسب المادة (27) والمادة (28) من النظام الأساسي للمحكمة يمكن أن ينقسم الاشخاص إلى فئتين:
الفئة الأولى: رؤساء الدول وذوو المناصب العليا.
الفئة الثانية: القادة والرؤساء العسكريون المسؤولون عن أعمال مرؤوسيهم.
لقد نصت المادة 28 –أ على مسؤولية القادة والرؤساء وأن القائد العسكري أو من يقوم مقامه يكونا مسؤولين مسؤولية جنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة...
أما في ما يتعلق بعلاقة الرئيس بمرؤوسيه، فقد نصت الفقرة «ب» من «المادة 28» عليها، أن الرئيس يسأل جنائياً عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب مرؤوسين يخضعون لسلطته...» وكانت المسؤولية الجنائية واضحة والتي تقع على عاتق رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ووزير حربه موشيه يعالون وبعض المسؤولين والقادة العسكريين، وذلك من خلال تصريحاتهم وتصرفاتهم التي تعتبر دليلاً على جرائمهم، بالإضافة الى ما ارتكب من جرائم ضد المدنيين، بخاصة النساء والأطفال.
ثالثاً: فعالية المحكمة الجنائية
يمكن الجزم بأن للمحكمة الجنائية الدولية، دوراً كبيراً في تحقيق العدالة الجنائية، لولا التدخلات السياسية الدولية، ولكن ذلك لا ينفي دورها الكبير على صعيد تحقيق هذه العدالة.
ونعم يمكن القول: إن انضمام فلسطين إلى المحكمة لن يؤثر في الصهاينة، لأن لمجلس الامن صلاحية ارجاء التحقيق والمقاضاة للمحكمة وهذا ما نصت علية المادة 13 من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية بقولها: ــ لا يجوز البدء في التحقيق او المقاضاة بموجب هذا النظام لمدة 12 شهراً بناءً على طلب من مجلس الامن الى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قراراً يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها.
ولم تنص المادة صراحةً على صلاحية مجلس الامن بعدم الموافقة على رفع دعاوى امام المحكمة الجنائية الدولية حفاظاً على استقلالية هذه المحكمة. كما قد يكون من الصعب ملاحقة المسؤولين الصهاينة في الدول التي وقعت مع «إسرائيل» اتفاقات لمنع ملاحقة مسؤوليها قضائياً مقابل علاقات اقتصادية او امنية وغيرها.
ولكن ذلك لا يمنع تحقيق دعاوى ضد الصهاينة والسير بها الى النهاية وحتى تحقيق مبتغاها، أو على أقل تقدير عدم النسيان بأن هناك جرائم بشعة جداً يرتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين، وتبقى المحكمة الجنائية أفضل من اللجوء إلى محكمة العدل الدولية التي تحاكم الدول. وتعلق آمال كبيرة على المحكمة من اجل الانتصار لحقوق الضحايا الابرياء وفضح الوجود الغير الشرعي للاحتلال وممارساته الإجرامية، خصوصاً أن هناك تعاطفاً دولياً كبيراً مع فلسطين نتيجة العدوان الصهيوني الغاشم.
ومع أن القرار مهم، ولكن حتى نرى أن إسرائيليا مدانا بالمحكمة فإن الطريق طويل ومليء بالعراقيل مثل الضغوطات السياسية والمالية والتهديدات ضد المحكمة، وبعد الآن، يجب ألا تهدر الحقوق الأساسية للفلسطينيين، ويجب عدم القول بأن المجتمع الدولي لا يحاكم الصهاينة، وإلا فإننا نضيع عمل المقاومة البطولي ونسمح للصهاينة بالتهرب من العقاب.