الدعوة الى التدويل: في العجلة الندامة؟
محمد أ. الحسيني
يروي محمود أبو ريّة في الصفحة (80) من كتابه "جمال الدين الأفغاني: تاريخه رسالته ومبادئه"، الذي ألّفه عام 1966م: "كان من عواقب الإسراف (الذي مارسته السلطة) الذي فاق كل حدّ، أن فتح الباب للتدخّل الأوروبي في أحوال مصر بين عامي 1875 و1876، وجرّ على البلاد من الكوارث ما جرّ، وقد حدث حينئذ أن اشترت إنجلترا أسهم مصر في قناة السويس، ثم تلا ذلك قدوم بعثة مستر "كيف" الإنجليزية لفحص مالية البلاد، وأعقب ذلك إنشاء صندوق الدين في مايو /أيار سنة 1876، ليتسلّم المبالغ المخصّصة للديون من المصالح المحلية، كأنه حكومة داخل الحكومة المصرية، ثم أنشئ نظام الرقابة على المالية المصرية، يخضع الخديوي (اسماعيل) لمشورتها، ولا يعقد قرضًا إلا بموافقتها، ويقضي هذا النظام بأن يتولّى الرقابة على المالية المصرية مراقبان أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، وأنشئت غير ذلك لجان مختلفة أخرى لها سلطات كبيرة، وقد تطوّرت هذه الرقابة الثنائية إلى تأليف وزارة مختلطة برئاسة نوبار (باشا) الأرمني، وفيها وزيران أوروبيان أحدهما إنجليزي لوزارة المالية (مستر ويلسون)، والآخر فرنسي لوزارة الأشغال (مسيو تريكو)".
انتهى الاقتباس من واقع يعود إلى ما يقرب من مائة وخمسين عامًا، حيث قبعت مصر تحت وصاية بريطانية ـ فرنسية، واستمرت هذه الوصاية بأشكال مختلفة حتى العام 1954 حين أجبرت مقاومة الشعب المصري قوات الإحتلال البريطاني على الجلاء من مصر، وفي العام 1956 أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس ليضع حدًا لسرقة القوى الكبرى خيرات البلاد، فأعلنت بريطانيا وفرنسا و"إسرائيل" الحرب بعدوان ثلاثي واجهته مصر بجيشها وشعبها ومقاومتها، وأفشلت أهداف العدوان. وبعد رحيل عبد الناصر انتهجت مصر سبيل المفاوضات والتسويات لتعود إلى عهد الوصاية، وتعود إلى عهد الانحدار والغرق في الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
رواسب الاحتلال الفرنسي
منذ العام 1948 بدأ معظم العرب ينفضّ من حول فلسطين وقضيتها وشعبها، لتقع فريسة الخيانة والاستفراد فتتوسّع "إسرائيل" في احتلالها نحو لبنان وصولًا إلى بيروت، وتكفّل بعض قوى الداخل اللبناني تظهير الواقع الجديد بدبلوماسية مقنّعة باتفاقات دولية (أبرزها القرار 425 وملحقاته الأمنية في القرار 426) بقيت حبرًا على ورق، إلى أن نهضت مجموعات من الشعب اللبناني بدءًا من العام 1982م في مقاومة عارمة استطاعت أن تحرّر الأرض المحتلة بقوة السلاح، وبالسلاح فقط، لتجبر المحتلّ الإسرائيلي على الانسحاب دون قيد أو شرط، ودون أي مكاسب، ودون أي اتفاقات أو قرارات على حساب لبنان، ولتفرض معادلة جديدة بعيدة عن أي تسويات محليّة أو دوليّة، ولتجعل من السلاح جوهر معادلة الحرية والسيادة والاستقلال.
لم يرق هذا الانتصار ـ وما تلاه من انتصارات إلهية واستراتيجية ـ للبعض من أفرقاء الداخل في لبنان، فهؤلاء في الأساس كانوا ولا يزالون يراهنون على معادلة مختلفة متحدّرة من رواسب الاحتلال الفرنسي، فهم كانوا ولا يزالون يرون أنفسهم جزءًا من نسيج لا ينسجم مع طروحات العروبة، ولا يتفاعل مع المقولات الشرقية على مستوى التاريخ والجغرافيا ولا الانتماء والعادات والثقافة، وهم بذلك يقفون على طرف نقيض مع كل المقومّات الشعوبية التي تسود في الوطن العربي.
لبنان وتيارات الانفصال
وفي هذا السياق يوضح الكاتب الصهيوني "رؤوفين إرليخ" في كتابه "المتاهة اللبنانية" أن "تيارًا سياسيًا وفكريًا في لبنان كان يعتقد أن قيام دولة يهودية في فلسطين إلى جوار لبنان، من شأنه أن يضمن بقاء لبنان المسيحي، ويحمي وجوده، ويقف حائلًا دون سيطرة سورية على لبنان والأردن، ويوجه ضربة لفكرتي الوحدة العربية والعروبة معًا..".
ويضيف إرليخ: ".. وتبلور آنذاك تياران في الوسط الماروني: تيار انفصالي يرى في لبنان وطنًا قوميًا للمسيحيين مع هيمنة مارونية، على أن يتم تقليص حدوده، بحيث يتضاءل وجود المسلمين فيه، وكان على رأس هذا التيار إميل إدة والبطريرك انطوان عريضة، والمطران أغناطيوس مبارك مطران بيروت للمورانة، وتيار آخر قبل بلبنان في حدوده التي أعلنها الجنرال غورو سنة 1920م، وكان أشهر ممثّلي هذا التيار الرئيس بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح وميشال شيحا".
هل يتحمل مسؤولية الطروحات العدائية؟
ما أشبه اليوم بذلك التاريخ المستعاد الانقلابي على السيادة اللبنانية، فالبطريرك بشارة الراعي لم يجد في كلمته أمام جمهور ميليشيا "القوات اللبنانية" الذي بايعه في بكركي، إلا البطريرك عريضة لكي يستشهد به في الدعوة إلى تدويل القضية اللبنانية، وكأنها دعوة مستجدّة للعودة إلى المشروع القديم، وهو مشروع لن يجد فرصته في النجاح للكثير من الأسباب الموضوعية سياسيًا وشعبيًا وحتى على مستوى تركيبة الكيان اللبناني. فلبنان أولًا لم يعد كما كان لقمة سائغة في فم ذئاب الوصاية الدولية، وما لم تستطع "إسرائيل" تحقيقه في حربها المدعومة كونيًا على لبنان بالحرب والدمار، لن تستطيع تحقيقه اليوم بدعوة لبنانية فئوية متسرّعة تفتقر إلى أدنى مقوّمات الإجماع من طائفتها نفسها، فكيف وقد ارتدت طابعًا طوائفيًا بشعارات حزبية عنصرية عدائية؟
لبنان لم يعد قابلًا للانتداب والوصاية
توهّم صاحب الدعوة ثانيًا أن دعوته ستلقى آذانًا صاغية لدى المجتمع الدولي، ولو أنه تمهّل قليلًا قبل إطلاق دعوته المتعجّلة لأدرك أن ما من أحد في الخارج مستعد في المرحلة الراهنة ولا في المراحل المقبلة في أن يغرق في المستنقع اللبناني، فلا أوروبا ولا فرنسا ولا أمريكا ولا حتى "إسرائيل" مستعدّة لكي تتبنّى هذا الطرح، وهي لا تنتظر دعوة أحد من لبنان للتدخل إذا أرادت ذلك، ولذلك يبدو أن الراعي لم ينجز قراءته للتطوّرات الإقليمية والدولية، فاستعجل بهذا الطرح الذي دفعه إليه فريق أفلس في خياراته السياسية ولم يجد أمامه سوى التمترس خلف الكرسي البطريركي ليغطّي الشعارات التقسيمية، وهي شعارات رفضها الفاتيكان رفضًا قاطعًا، مفضلًا اعتماد الحوار الوطني كخيار أنجع لحل المشكلات اللبنانية. وثالثًا وهو الأهم في أسباب فشل سعي البطريرك الراعي لاستدراج للتدويل، أن لبنان اليوم لم يعد قابلًا لأن يكون تابعًا لأحد أو أن يعود إلى عصر الاإنتداب والوصاية، فقد جرّت أساطيل أمريكا وفرنسا وراءها الخيبة ولم تعد، وسحبت "إسرائيل" جنودها وأغلقت الأبواب وراءها على عملائها التائهين، وباتت تحسب ألف حساب لتحرّك جنودها على الحدود اللبنانية المحروسة بعيون المقاومين وبنادقهم، وبالتالي فإن الدعوة إلى الوصاية المغلّفة بتعبير "الحياد" تدفع لبنان نحو فخ الارتهان للخارج، والحل الأفضل هو تبريد الحماوة في الرؤوس ليعود العقل إلى موقعه الواعي، والاتجاه نحو بناء لبنان سيد حر مستقل.