مولد الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) مولد الاسلام
هل يستطيع فكرٌ ضئيلٌ أن يحلّق في سماء العظمة؟، وهل يستطيع الجدول الصغير أن يرفد البحر؟، أم هل يستطيع خيالٌ عاجز أن يطوف بهذا العالم الإنسي، الملائكي اللامتناهي بالفضائل والمكرمات؟، هذا الشعور كان يراودني حينما عزمت أن أوجه وجهي وعقلي وقلبي نحو شخصية لم يعرف التاريخ البشري أعظم وأكرم وأكمل وأفضل وأتقى وأنقى منها سوى مربيها ومعلمها سيد الثقلين النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، إنه الإمام الذي تفخر باسمه الأئمة، والإنسان الذي تخشع لذكره الإنسانية.
إنه علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام)، إنه الإنسان الذي لم يزل ولا يزال منذ أربعة عشر قرناً ملتقى النفوس ومهوى الأفئدة، فهو كالبحر من أين تأتيه ترد ولا يزداد مع تعاقب الأزمان والأجيال إلا جلالاً وجمالاً، وقد عكفت على ساحله الأزمان والأجيال مبهورة بهذا الجمال والجلال، ويقيّض للمبحر في أثباجه أن يلتقط الدر من فضائله ومعجزاته، ولكنه كلما غاص في هذا الكمال تضاءل فكره أمام آيات هذه العظمة.
إنه علي بن أبي طالب الذي خشع له إجلالاً عظماء التاريخ الذين حكم التاريخ بعظمتهم، أما هو فقد أدار دفة التاريخ، فانحنى لعظمته العظماء وخشع لجلاله الأجلاء.
إنه علي بن أبي طالب الذي ولد في داخل الكعبة فكان لولادته إيذاناً بعهد جديد لها من المنزلة والعبادة، ونقطة تحول مضيئة في تاريخها، أما إسلامه وتصنيفه مع غيره بتسلسل فهذا كلام لا نحتاج إليه ، فلسنا بحاجة إلى الروايات في ذلك وإن أكدت كلها على أنه أول من أسلم سوى الروايات الشاذة الموبوء مصدرها، والتي أشاح أصحابها بوجوههم عن الحقيقة الناصعة لينفضوا عن وجوه من صنّفوهم في مقدمة المسلمين ذل عبادة الأصنام، أما علي فمن الإجحاف بحقه أن يُصنّف مع أي واحد من هؤلاء ـ حتى وإن كان أولهم ـ وهل كان علي كافراً حتى يسلم ؟ ـ حاشا لله ـ أم هل سجد لصنم في حياته حتى يدونوا تاريخ سجوده لله ؟ لقد ولد علي مسلماً، وكرّم الله وجهه عن السجود لغيره، وأشرق وجهه منذ ولادته على نور النبوة، واحتضنته كف الرسالة، ورُبّي في بيت الوحي والتنزيل، وتنقّل في الأصلاب الساجدة والأرحام المطهرة، فكان إسلاماً مجسّداَ، وقرآناَ ناطقاَ، ووريثاَ للنبوة، وأباً للإمامة.
يقول ميخائيل نعيمة : (إن التاريخ لم يعرف رجلين ترافقا في طريق النور والخير مثل ترافق النبي محمد (صلى الله عليه وآله) والامام علي بن ابي طالب (عليه السلام). ويقول الفيلسوف الكبير جبران خليل جبران : (في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية، وجاورها، وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها، على مسمع قوم لم يسمعوا بها من قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب به كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية).
علي هو الذي يقول: (صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل أن يصلي الناس بتسع سنين) وكانت أول صلاة جماعة في تاريخ الإسلام تضمّ محمداً وعلياً وخديجة خلفهما ثم انضم إليهم رابعاً جعفر بن أبي طالب عندما رآهما أبو طالب ومعه جعفر فقال لجعفر: (صل جناح ابن عمك)، لقد كان علي هو الإسلام والإسلام هو علي بكل مبادئه ومفاهيمه وأحكامه وشرائعه، ولولاه لما عرف الناس إسلاما، ولسنا مغالين في ذلك فهذا القول ليس رأياً شخصياً أفرزته العاطفة، إنما أكدته كل الحقائق التاريخية.
علي الذي لم يتخلّف عن معركة خاضها رسول الله، وفي كل المعارك التي خاضها كان بطلها الأوحد وفارسها الأمجد، ولم يترك رسول الله في كل حروبه سوى في تبوك بأمر رسول الله، حيث خلّفه على المدينة قائلاً له (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
عليٌ الذي أوصى له رسول الله يوم الغدير بقوله: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) قام بتغسيل النبي ودفنه وكان آخر الناس عهداً به، كما كان أكثر الناس ملازمة له في السلم والحرب.
عليٌ حمل من بعد الرسول أعباء النبوة ومسؤولية الدفاع عن الإسلام كما حمل أعباء تثبيته، فقاتل على التأويل القاسطين والمارقين والناكثين كما قاتل كفار قريش على التنزيل.
يقول ميخائيل نعيمة (بطولات الامام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلا في صفاء رأيه، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق انسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعوته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الخارج والظالم، وتأييده للحق أينما تجلى له الحق).
ويقول الفيلسوف الإنكليزي (كارليل): (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة، ولطف، ورأفة، وحنان)
(علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار) هكذا يوصي رسول الله أصحابه كما يخص عمار بوصية أخرى: (يا عمار لو سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً غيره فاسلك الوادي الذي سلك علي) فعليٌ لم ينطق بغير الحق، ولم يعمل بغيره. يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: (وما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، وكان أبداً عند قوله: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك)
علي بهذه العظمة التي لم يجد لها التاريخ مثيلاً هو مبدع أروع دستور خطته يد إنسان لهذه الأمة وهو نهج البلاغة الذي احتوى كلاماً فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، وقد امتاز هذا السفر الخالد بشموليته حيث شمل جميع القيم والمفاهيم الإنسانية والاجتماعية والفكرية فهو يمثل الإسلام بنقائه وصفائه ويحفظ للإنسانية حقوقها وكرامتها ويبلغ بها مبالغ الكمال.