تفجيرات بغداد بين التساؤلات المطروحة والمعالجات المطلوبة
عادل الجبوري
لم يتأخر تنظيم "داعش" الارهابي ولم ينتظر وقتًا طويلًا حتى يعلن مسؤوليته عن التفجير الارهابي المزدوج الذي وقع في ساحة الطيران وسط العاصمة العراقية بغداد صباح الخميس الماضي، الواحد والعشرين من شهر كانون الثاني-يناير الجاري، حتى أنه أفصح عن اسماء الانتحاريين اللذين فجرا نفسيهما وسط عشرات العمال والكسبة والمتبضعين.
ورغم احتدام الجدل والسجال حول الجهة التي يمكن ان تقف وراء العمل الارهابي الذي تسبب باستشهاد اكثر من ثلاثين شخصا واصابة اضعاف هذا العدد، الا ان طريقة التنفيذ الانتحاري تؤشر بوضوح الى ان داعش هو الطرف المتورط، وان اعلانه لم يكن من باب استغلال الحدث وتوظيفه لصالحه، بصرف النظر عن الاطراف المساهمة في التخطيط والتحضير، او الاطراف المستفيدة.
ولا شك أن الاعوام الستة الأخيرة، شهدت تحسنا ملحوظا في مجمل الأوضاع الأمنية، لا سيما في العاصمة بغداد والمدن الرئيسية، اذ اختفت بصورة شبه كاملة مظاهر ومشاهد السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة في الشوارع والأسواق ومختلف الأماكن العامة والمؤسسات الحكومية، وقد ارتبط ذلك في جانب كبير منه بهزيمة عصابات "داعش" في عموم المواقع والميادين، وتقطع أوصال التنظيم الى حد كبير، وانحسار وتقلص منابع ومصادر تمويله ودعمه، فضلًا عن التطور النسبي في أداء القوات والأجهزة الأمنية والعسكرية، وظهور الحشد الشعبي كقوة فاعلة في الميدان على ضوء فتوى الجهاد الكفائي للمرجعية الدينية في صيف عام 2014.
كان آخر تفجير ارهابي كبير وقع في العاصمة العراقية بساحة الطيران أيضًا، في الخامس عشر من كانون الثاني-يناير من عام 2018، أي قبل ثلاثة أعوام، وما بين ذلك التاريخ والتفجير الارهابي المزدوج الأخير، بدا أن الأمور تتجه الى الكثير من الاستقرار والهدوء والاطمئنان، خصوصًا وأن ملاذات "داعش" في مناطق حزام بغداد لم تعد كما كانت في السابق، وباتت تحت سيطرة القوات الامنية الحكومية بصورة كاملة او شبه كاملة.
اذاً، اذا كان الوضع بهذه الصورة، فمن الطبيعي ان يتساءل الكثيرون عن أسباب وخلفيات المشهد الدموي الأخير في ساحة الطيران.
القراءات الاجمالية العامة لتحليل أبعاد الحدث، تتجه الى أن عصابات "داعش" الارهابية، ربما تكون قد تمكنت بعد هزيمتها في المواجهات المباشرة في الميدان، من اعادة تنظيم صفوفها بدرجة معينة، والسعي الى اعادة تحريك عجلة العمليات الارهابية، عبر استغلال الاسترخاء الامني والاطمئنان المجتمعي الى جانب الانشغالات السياسية والاقتصادية والصحية بملفات شائكة ومعقدة وخطيرة، من دون استبعاد فرضية وجود اياد اميركية، في اطار محاولات خلط الاوراق واغراق الشارع العراقي مجددا بالدماء والاشلاء، ليكون ذلك مقدمة ومبررا للبقاء فترة اطول، لا سيما مع تصاعد الدعوات والمطالب العراقية بأنهاء التواجد الاجنبي من ارض البلاد.
وبينما تبدي بعض الاوساط الشعبية والسياسية مخاوفها وهواجسها من ان تكون التفجيرات الارهابية الاخيرة بداية لمرحلة جديدة من الفوضى الامنية، تشكل التقاطعات السياسية والانطلاقة المبكرة للتنافس الانتخابي، وتعدد الولاءات في داخل المنظومات الأمنية والاستخباراتية، أرضيات مناسبة لها، تطرح أوساط أخرى حلولا ومعالجات استباقية تعتبرها مهمة وضرورية من أجل قطع الطريق أمام اية محاولات لاعادة العراق الى المربع الاول، بصرف النظر عن مصدر هذه المحاولات.
ومن بين تلك الحلول والمعالجات الاستباقية، اجراء مراجعات جادة وعميقة وموضوعية لمجمل السياقات الأمنية المتبعة حاليًا وتشخيص مواطن الضعف والخلل فيها، وكذلك الاسراع بتنفيذ احكام الاعدام بحق الارهابيين القابعين في السجون منذ عدة أعوام، ولا شك أن أعدادهم ليست قليلة ولا هامشية. أضف الى ذلك تعزيز العمل والتحرك لانجاز استحقاق انهاء التواجد الأجنبي واخراج كل القوات الاميركية من العراق، وفقا لقرار مجلس النواب العراقي الصادر مطلع العام الماضي، والاهتمام بديمومة واستمرارية التنسيق والتعاون الاستخباراتي مع بعض الاطراف الاقليمية والدولية المعنية والمستهدفة من الجماعات الارهابية، كما هو الحال بالنسبة لغرفة التنسيق الاستخباري الرباعي التي تضم كلا من العراق وسوريا وايران وروسيا، التي تأسست في اواخر عام 2015، وكان لها دور واثر كبير في اضعاف "داعش" وتحجيمه الى حد كبير. ولعل بروز تهديدات جديدة للجماعات والتنظيمات الارهابية هنا وهناك، يستدعي المزيد من التعاون والتنسيق عالي المستوى، وقد يكون التعرض الأخير للحشد الشعبي في منطقة العيث شرق محافظة صلاح الدين مطلع الاسبوع الجاري، اي بعد يومين من تفجيرات ساحة الطيران، مؤشرا على بروز تلك التهديدات، علما أن هذا التعرض قد أسفر عن استشهاد احد عشر عنصرا بعضهم من القيادات الميدانية اضافة الى جرح عدد اخر.
وبما ان الوقائع والأحداث في المشهدين الاقليمي والعالمي متداخلة ومترابطة مع احداث ووقائع المشهد المحلي، ومؤثرة عليها بقدر معين، فإن قراءة معطيات وتفاعلات ما يجري في الشارع العراقي في هذه المرحلة ينبغي أن لا يكون بعيدًا أو منعزلا عن التغيرات في الادارة الاميركية، وعن ابعاد ودلالات ومخرجات المصالحة الخليجية الأخيرة في قمة العلا السعودية، وعن الاجندات الخارجية الساعية الى توجيه الاستحقاق الانتخابي العراقي بمسارات معينة، ايا كان توقيت ذلك الاستحقاق والظروف التي سوف يجري فيها.
كل ذلك وربما غيره، يعني فيما يعنيه، ووفق ما أثبتت التجارب السابقة أن محركات الحدث العراقي بأبعاده السياسية والامنية والاقتصادية غالبا ما تكون خارجية اكثر منها داخلية، وما دامت المعادلة هكذا، فإن الاصلاحات الحقيقية ستظل غائبة، ومتى ما تبدلت المعادلة، يمكن الحديث عند ذاك عن مخارج وحلول ومعالجات واقعية وعملية للمشاكل والازمات بعناوينها المتعددة واشكالها المتنوعة.