kayhan.ir

رمز الخبر: 124958
تأريخ النشر : 2021January10 - 20:07

آخر أيام ترامب: الديمقراطية المثلومة

عادل الجبوري

لم يتبق على مغادرة الرئيس الاميركي المهزوم دونالد ترامب للبيت الأبيض ليحل محله الرئيس الفائز جو بايدن سوى بضعة أيام. ويبدو أن العالم سيبقى حابسًا أنفاسه خلال هذه الفترة، توجسًا وقلقًا واضطرابًا مما يمكن أن يقدم عليه ترامب، الذي ما زال حتى الآن غير متقبل لحقيقة هزيمته، ولأنه كذلك، فقد راح يفتح جبهات داخلية وخارجية في اطار محاولاته لخلط الأوراق، وبالتالي اعادة عقارب الساعة الى الوراء، أو في أسوأ الأحوال تحطيم الساعة وعقاربها بالكامل!

وربما تكفي وقائع اقتحام مبنى الكونجرس من قبل جماعات فوضوية متطرفة داعمة لترامب ومدعومة منه، للتدليل على حقيقة منهج ذلك الرئيس غريب الأطوار والسلوكيات، وطريقة تعاطيه مع الأمور، لا سيما الحساسة والخطيرة منها، التي تمس أمن واستقرار وتماسك الولايات المتحدة الاميركية.

التعمق والتدقيق في وقائع وحيثيات اقتحام مبنى الكابيتول بهذه الصورة والكيفية، وبدفع وتشجيع ودعم من صاحب السلطة العليا في البلاد، يكشف عن حقائق ومعطيات خطيرة، علمًا أن استهداف مقر السلطة التشريعية في الولايات المتحدة الاميركية، لم يحدث على مر تاريخها، الا مرات قليلة جدًا، كان آخرها في عام 1945، حينما أطلق متطرف قومي ينحدر من ارخبيل بورتوريكو النار على أعضاء مجلس النواب ليصيب خمسة منهم قبل أن يتم اعتقاله والسيطرة على الموقف.

وفي مرات سابقة، حصلت خلافات واختلافات حول نتائج الانتخابات الرئاسية، وكان يصار للجوء الى المحكمة الدستورية لتقول الكلمة الفصل، ولتنتهي الأمور بسلام. وكانت أبرز تلك الخلافات والاختلافات ما حصل بين المرشح الجمهوري جورج بوش الابن والمرشح الديمقراطي ال غور في عام 2000، وقد تأخر حسم واعلان نتائج الانتخابات اكثر من شهر بسبب تقارب أعداد الأصوات التي حصل عليها كل من المرشحين، ناهيك عن بروز دلائل ومعطيات عن حصول عمليات تزوير واتلاف واخفاء لعدد من صناديق الاقتراع في بعض الولايات، بيد أن النزوع نحو العنف واستخدام القوة واثارة الفوضى لم يكن من بين الخيارات المطروحة بالنسبة لاي من المرشحين.

لا شك أن اقتحام مبنى الكونجرس في مقاطعة (Capitol Hill ) بالعاصمة واشنطن، تحت مرأى ومسمع وتشجيع وتدبير الرئيس، لن يمر وكأنه حدث عابر، حاله حال الكثير من الأحداث التي تحصل هنا وهناك، بل لا بد أن تكون له تداعيات آنية ومستقبلية، ستلقي عاجلًا أم آجلًا بظلالها الثقيلة على الواقع الداخلي الأميركي وعلى موقع ومكانة وصورة الولايات المتحدة الاميركية في المشهد العالمي العام.

لعل من أهم وأبرز ما أوضحته وأثبتته عملية الاقتحام، هو أن مظاهر الارهاب والعنف وما يرتبط بهما من مظاهر وسلوكيات، تدعي واشنطن محاربتها في مختلف بقاع العالم، هي الواقع لها وجود حقيقي وكبير وخطير في الداخل الاميركي، وقد أصاب الساسة الذين اعتبروا أن من قاموا بعملية الاقتحام هم ارهابيون داخليون، ولم يكن ممكنًا لأي كان أن يوجه أصابع الاتهام لأي جهة خارجية، في الوقت الذي كانت فيه جماعة براود بويز (Proud boy) اليمينية المتطرفة الأداة الأبرز لكل ما حدث من تخريب وتدمير وترهيب في محيط مبنى الكونجرس وفي مختلف قاعاته وغرفه وأجنحته.

الحقيقة الأخرى، تمثلت في أن أحداث اقتحام الكونجرس، وارتباطها بإصرار ترامب على عدم ترك السلطة رغم خسارته المؤكدة والواضحة في الانتخابات أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن، هزت الصورة التقليدية المرتسمة في أذهان عموم الناس، عن الانتقال والتداول السلمي للسلطة في الدول المتحضرة ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة والقوية، الذي يختزله مشهد مغادرة الزعيم الخاسر مقر الرئاسة برفقة أفراد عائلته ليستقل سيارة عادية الى مكان سكنه العائلي كأي فرد من أفراد المجتمع، على خلاف ما يحصل في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية، التي لا يمكن للحاكم أن يغادر فيها منصبه الا بفعل الموت أو عبر الانقلاب.

ولم يبالغ من شبّه الولايات المتحدة الاميركية بجمهوريات الموز، في اشارة الى التخلف وغياب القانون وهيمنة لغة العنف على لغة العقل والمنطق، علمًا أن من استخدموا هذا التشبيه ساسة كبار من أمثال الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، الذي قال "ان نتائج الانتخابات لا يتم الطعن فيها بهذا الشكل إلا في جمهوريات الموز، وليس في جمهوريتنا الديمقراطية".

الحقيقة الأخرى، هي أن مجمل ما حصل، عزز بشكل أو بآخر ما يقال عن النزعات المجتمعية الخطيرة في الولايات المتحدة الأميركية التي أطلت برأسها بشكل صارخ اثر مقتل الرجل الأسود ذي الأصول الافريقية "جورج فلويد" على يد ضابط شرطة في الخامس والعشرين من شهر ايار-مايو من العام الماضي بمدينة مينيابولس بولاية مينيسوتا. وفي الواقع إن تلك النزعات المجتمعية الخطيرة، تعد سببًا أكثر مما هي نتيجة لمجمل التداعيات التي أسفرت عن مقتل فلويد، وللكثير من الانتهاكات والتجاوزات والاساءات للاقليات في المجتمع الاميركي من قبل الجماعات اليمنية المتطرفة، الذي رأى الكثير منها ان وجود ترامب في البيت الابيض يعد فرصة مثالية لها ينبغي استغلالها لتعزيز هيمنتها وحضورها ونفوذها.

وبعيدًا عن الدلالات السياسية لاقتحام الكونجرس من قبل المتطرفين الفوضويين، المعبئين بأفكار عنصرية متشددة والمدفوعين بسياسات شعبوية متخلفة، فإن مجمل ما حصل أثبت هشاشة المنظومات الأمنية الداخلية لأكبر وأقوى دولة بالعالم، بالرغم من وجود عدة مؤسسات أمنية واستخباراتية تتوفر على امكانيات فنية وبشرية ومادية كبيرة ومتطورة جدًا، وحينما تفشل تلك المؤسسات والأجهزة الأمنية في منع جماعات متطرفة من اقتحام وتخريب مقر السلطة التشريعية الأعلى في أميركا، وتهديد حياة أعضائها، فإنه من الطبيعي جدًا أن تهتز ثقة المواطن، بل حتى السياسي، بأركان تلك المنظومات وحسن ادائها وقدرتها على التعاطي مع المستجدات بحنكة وقوة، لتساهم بالتالي في الحفاظ على أمن المجتمع وسلامة النظام.

ملايين الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ممن شاهدوا ما يجري في واشنطن عبر شاشات التلفاز، كانوا كما لو أنهم يشاهدون ما يحصل في عواصم بلدان متخلفة تسودها الفوضى والعنف والاضطراب وتغيب عنها كل مظاهر الأمن والاستقرار والثقافة والتحضر. وهذه الملايين المندهشة، أغلب الظن أنها شاهدت مثل تلك الصور والمظاهر سابقًا في أكثر بلدان العالم تخلفًا وتأزمًا واضطرابًا، واليوم لا يحتاج الاعلام المعادي للولايات المتحدة الأميركية أن يتحدث ويحلل ويفسر حقيقة ما جرى ويجري في الوقت الذي يقوم الاعلام الاميركي ومختلف مراكز التفكير والتحليل بهذه المهمة.

ويبقى ترامب، الذي استقتل ولم يترك سلاحًا الا لجأ اليه واستخدمه من أجل البقاء في البيت الأبيض لأربعة أعوام أخرى، الخاسر الأكبر، بدلًا من أن يكون الرابح الأكبر، فأحداث اقتحام الكونجرس، ربما ستكون الصفحة الأخيرة في سجله السياسي، فمجرد التلويح والتهديد بعزله وفقًا للتعديل الخامس والعشرين للدستور الاميركي، يعد ضربة قاصمة له حتى وإن لم يتحقق، لأنه يقطع الطريق عليه أمام أي طموح أو تفكير باستعادة السلطة بعد أربعة أعوام اذا كتب له البقاء على قيد الحياة، ناهيك عن أنه فقد ما تبقى له من مكانة وتأثير وحضور في الحزب الجمهوري، مضافًا الى ذلك، الكثير من القضايا والدعاوى التي سوف تلاحقه بعد مغادرة البيت الأبيض جراء حماقاته وجرائمه في اكثر من موقع ومكان.

خلاصة القول، إن أيام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض، وما حفلت وستحفل به من وقائع وأحداث، هي في واقع الأمر اختزال واختصار لمسيرة الأربعة أعوام الماضية - واختزال واختصار لواقع القوة الأعظم والأكبر في العالم، وهي لم تعد كذلك - التي ربما تكون من الحقب الاسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية، وقد يتأكد ذلك حينما يتكشف المزيد من أسرارها وخفاياها بعد حين.