الأميركيون يفضّلون الاستنزاف الطويل
غالب قنديل
يتخيل كثيرون أن الأمور في الشرق العربي تتحضّر لحسم وشيك، بينما الوقائع لا تشير الى ذلك. وترجّح مسارات الصراع ميل المخططين الأميركيين لاستثمار الجروح المفتوحة في منطقتنا، على المديين المتوسط والطويل.
أولا: إن ما يرجّح هذا الميل الأميركي، هو تطبيق استراتيجية الحرب من الخلف باعتماد أدوات وكيلة وعميلة، يوكل اليها شنّ الحروب لمصلحة الخطط والاستراتيجيات الأميركية، وهذا ليس جديدا في الواقع على حروب واشنطن. لكن الكثير من التطوّر التقني يخفّض من الكلفة الافتراضية على إمبراطورية كالولايات المتحدة، حيث يفضّل مخططو البنتاغون تحاشي أسلوب "الأحذية العسكرية على الأرض" باعتماد الوكلاء والعملاء وبالاتكال على البدائل المصنّعة تكنولوجيا كالطائرات المسيّرة والأقمار الصناعية لتجنّب دفع الخسائر البشرية، التي اختبروا كلفتها العالية سياسيا في الداخل الأميركي خلال حروبهم المتعدّدة في أكثر من منطقة في العالم، حيث تحوّلت تداعيات الفشل الى أزمات سياسية عميقة داخل الإمبراطورية.
اليوم يفضّل الجنرالات الأميركيون أسلوب "القيادة من الخلف" وتلافي تعريض الجنود الأميركيين للخطر. وقد سُخِّرت التكنولوجيا المتقدمة في خدمة هذا النوع من السلوك العسكري. وفي جميع المبادرات العسكرية الأميركية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة، تمّ اعتماد بدائل تقنية في العمليات الحربية هربا من دفع الكلفة البشرية. وينظّر الجنرالات الأميركيون لجيل جديد من الحروب، التي لا تحتاج الى العنصر البشري. ولعل هذا النوع من أساليب القتال، التي يعمل الأميركيون على تطويره، هو التجلّي الواقعي لعقدة فيتنام، وما أعقبها من هزائم. لكن عقيدة العدوان والاحتلال والسعي الى الهيمنة ما تزال في صلب التخطيط الأميركي وبوسائل مختلفة.
ثانيا: إن السعي الى التوسّع والهيمنة، هو نتيجة لطبيعة النظام الأميركي وحجم مصالحة على الصعيد العالمي. ومخطئ من يتخيّل تحوّلات منظورة قد تغيّر في عدوانية الولايات المتحدة وسعيها الى الهيمنة على الأسواق والموارد الأولية، واستعمال القوة العسكرية لإخضاع الدول المستضعفة لمشيئتها الاستعمارية.
هذا الأمر هو جزء من طبيعة النظام الأميركي، وبالتالي لا تلوح في الأفق تطورات داخل الولايات المتحدة تتيح افتراض حصول تغيّر في طبيعة هذا النظام وأطماعه. بل إن جميع الوقائع تؤكد استمرار النهج العدواني الأميركي، ومحاولة استدراك الهزائم، وردّ الاعتبار لسياسة القوة والعدوان. ومن هذا المنطلق تبدو شعوب العالم الثالث مدعوة للاستعداد الدائم والمستمر لمقاومة الهيمنة الأميركية، ولكسر إرادة العدوان والحروب التي تجسدها سياسة واشنطن في العالم الثالث في سبيل الهيمنة والنهب، وكذلك لمحاولة كسر القوى العالمية المنافسة والمهيأة لفرض توازن جديد كروسيا والصين.
ثالثا: الصراع العالمي الذي تثيره عدوانية الإمبراطورية الأميركية في معظم القارات يولّد حالة من القلق والاستنزاف لجميع دول العالم، التي تجد نفسها مضطرة الى السعي لامتلاك القوة الكافية للدفاع عن وجودها ومصالحها أمام البطش الأميركي، ونزعة الهيمنة اللصوصية الأميركية، التي تهدد مختلف الشعوب.
إن منطقتنا العربية تشكّل إحدى نقاط الارتكاز الرئيسية للهيمنة الأميركية في العالم. ويلعب فيها الكيان الصهيوني دورا رئيسيا ضمن منظومة الهيمنة الأميركية. وليس من الواقعية بمكان إسقاط هذا البعد من حساب أي من بلداننا العربية الساعية الى التحرّر من الهيمنة. فكل معركة استقلال وتنمية وتطور اقتصادي في أي بلد عربي هي بالضرورة معركة تحرّر من الهيمنة الأميركية الصهيونية، وهي بالتالي تستوجب استعدادا وتحضيرا استثنائيا، وبلورة إرادة سياسية صلبة لتعبئة القوى الشعبية في خوض معركة التحرّر. وبديل هذه المعركة هو الرضوخ للنهب وللإملاءات الاستعمارية، التي تعاكس المصالح الحقيقية لبلداننا في التنمية والاستقلال. وللأسف، فإن أقلية سياسية عربية تؤمن بهذه الحقيقة، وتتفاعل على أساسها مع الأحداث والمستجدات، بينما يزداد العدو شراسة وغطرسة. والمعارك التي شهدتها السنوات الماضية، وتحقق بنتيجتها تقدمٌ في فرض التوازنات الجديدة من قبل محور المقاومة، تجعل المجابهة المصيرية حول مستقبل الشرق عالقة في منتصف الطريق. فالسجال متواصل بين المعسكرين، وحسمه يقتضي حشد قدرات وإمكانات بشرية ومادية، وتطوير صيغ جديدة للمجابهة.